زهية جويرو:

يجب تحرير القانون في العالم الإسلامي من سطوة الفقيه (2-2)

مركز حوار الثقافات

01-09-2024

يستكمل مركز “حوار الثقافات” حواره مع الدكتورة زهية جويرو، أستاذة الدراسات الإسلامية وعلم الأديان بالجامعة التونسية. وفي الجزء الثاني من حوارها تتطرق جويرو إلى الرؤية النسوية حول بعض الأحاديث الواردة في كتب السنة، التي قد تعطي نظرة سلبية عن المرأة، وتتحدث عن قضية المواريث في الإسلام وتناقش التحديات التي تواجه المرأة العربية المسلمة بشكل عام في الوقت الراهن ورؤيتها لمسألة ربط الدين بالقانون.

  • كيف تُقيِّمين النظرة النسوية لبعض الأحاديث التي تُظهر المرأة في صورة الضعيفة أو الناقصة؟

يتنزل هذا في مجال أوسع هو صناعة المتخيَّل، وللأسف صنع المتخيل الإسلامي للمرأة صورة جامعة بين كثير من السلبيات من كيد ونقصان في العقل والدين والخلق ودونية، وهذا المتخيل لا يزال فاعلاً في بناء الوعي إلى اليوم، والأمر لا يخص المرأة المسلمة والإسلام وحدهما بل يشمل النساء في أغلب مناطق العالم وثقافاته وأديانه، وانتشار هذه الصورة دليل على أن الفهم الذكوري للدين واستحواذ الذكر على السلطة ببعديها المادي والرمزي هو الذي مكن لها في العقول وفي الوعي الجماعي، وليس تلك النصوص في حد ذاتها نظراً لما نعرف من ملابسات جمعها وتدوينها من جهة، وما يحمل ذلك من دوافع للشك في وثوقيتها من جهة، ولما لتلك النصوص، في حال ثبوتها، من سياقات قول يتمّ تجاهلها فتحمّل تبعاً لذلك بدلالات قد لا تكون مقصودة بالمرة من قائلها، والغريب في الأمر هو أن تشيع مثل هذه النصوص وتنشر بينما تُهمل نصوص أخرى تفيد نقيض ما يُفهم من تلك، مثلما يتم التركيز على وقائع حتى تصير هي المرجع في الفهم والتشريع معاً، ويقلل في المقابل من شأن وقائع أخرى حتى تغدو مجهولة أو تكاد، فعلى سبيل المثال يتم تأكيد زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عائشة لتبرير تزويج الطفلة، رغم ما نشأ منذ القديم بين رواة الأخبار من اختلافات تخص سن عائشة عند زواج الرسول بها، واختلاف الدارسين المعاصرين إلى اليوم بشأن الموضوع نفسه، وفي المقابل يتم تجاهل حقيقة أن الرسول نفسه تزوج قبل عائشة من خديجة التي تفوقه سناً بسنوات كثيرة مثلما تزوج أخريات يفقنه سناً ومتقدمات في العمر ومطلقات أو أرامل؛ وذلك تأكيداً لجملة من القيم العليا التي يجب أن تُمثل مرجعاً في ترتيب العلاقات بين النساء والرجال. وهذا ما يجعل النقد التاريخي مطلباً معرفياً حيوياً في قراءة التراث الديني ونصوصه من أجل إزالة أغشية الجهل والأوهام عن العقول.

  • يرى البعض أن مسألة المواريث حداً من الحدود ولا اقتراب منها وإلا يكون الأمر تجاهلاً للقرآن وتغييراً في أوامره التي هي عماد الإسلام.. فما رأيك؟

أرى من المحرج للضمير اليوم أن يجد المرء نفسه مضطراً ليميز بين أبنائه وبناته في تركته بحجة فقهية قابلة للنقد والتعديل. أنا شخصياً يحرجني كثيراً اليوم أن أجد نفسي مضطرة لأي سبب كان لأميز بين ابنتي وابني في معاملاتي معها بكل أنواعها العاطفية الوجدانية والمادية، لا أستطيع ذلك ولا أحتمله وأعتقد أن عدداً معتبراً من الآباء والأمهات يعيشون هذا الحرج الذي أعيشه، لذلك من الضروري رفعاً لهذا الحرج إما فتح المجال بالقانون أمام هؤلاء ليمارسوا قناعتهم بشأن علاقاتهم بأبنائهم، أو فتح المجال أمام اجتهاد جديد في قراءة النص القرآني وتأويل ما جاء فيه بخصوص مسألة عامة هي تقاسم الأموال بين الرجال والنساء ومسألة أخص هي تقاسم الميراث. وهذه القراءة ممكنة ولها ما يدعمها من داخل النص نفسه ضمن منظور مساواتي، ولأن المجال لا يسمح لنا بالتوسع في هذا الأمر فإني أدعو من يرغب في ذلك إلى النظر في كثير من الأعمال المنجزة والاجتهادات القيمة في هذا الشأن. أودّ أيضاً الإشارة إلى أن “المساواة” قيمة عليا وسامية وليست عملية حسابية دقيقة تستدعي أن يحصل كل من الأبناء والبنات على النصيب نفسه بالضبط؛ إذ هناك معطيات أخرى غير حسابية تدخل في حساب هذه المساواة التي تقوم على مبدأ الإنصاف كذلك، ومن تلك المعطيات وضع الأبناء، حيث يكون من حق الآباء والأمهات على سبيل المثال، بل ومن واجبهم أيضاً، أن يساندوا من لم يوفق في حياته المهنية من أبنائهم وبناتهم بنسبة تفوق مساندتهم لمن وُفق منهم. ومن حقهم أيضاً أن يتركوا نصيباً من ممتلكاتهم لمن أو لما يختارون لا فقط على أساس القرابة الدموية بل لدوافع إنسانية وقناعات قيمية، وبهذا يلتقي اختيار المؤمن مع القيم الأساسية التي أكدها الله تعالى في كل ما يُعرف بآيات المواريث وهي قيم التكافل والتضامن وإيتاء ذوي الحاجة. أما الاستمرار في التمسك بالمسلمات الفقهية القائلة بأن آيات المواريث من النصوص قطعية الدلالة فهذا في نظري استمرار في إنكار المشكلات التي تعترض المسلم والإسلام اليوم بحجج أعتبرها واهية؛ فآيات المواريث ليست قطعية الدلالة إطلاقاً، وإلا لما أثارت بين المفسرين ولا بين الفقهاء ما أثارته من اختلافات نوعية وليست جزئية فحسب، ونهج إنكار مشكلات الواقع الراهن صار أحد أخطر ما يواجه الإسلام، وهو نهج لا جدوى له ويخالف تماماً ما سَنَّه الأوائل من الصحابة وفقهاء الاجتهاد الذين اجتهدوا في النصوص وقدموا مقتضيات الواقع وأخذوا بإكراهاته رفعاً للحرج على المسلمين وعملاً بمبدأ التيسير الذي قام عليه الشرع. وهذا التصور المنهجي القائم على الاعتبار بإمكانيات إعادة القراءة غير المحدودة وبأن التأويل أفق مفتوح على الواقع ومتغيراته هو أحد التصورات القادرة على أن تخرجنا من مأزق التسليم بالصلاحية المطلقة للنص كما فهمها القدامى؛ فالنصوص الكبرى القادرة على مطاولة الأزمنة وعلى أن يكون لها في كل زمان موقع ووظيفة، شأن القرآن الكريم، لا تكتسب هذه القدرة من حرفها ومن دلالتها الحرفية بل تكتسبها من طاقاتها البلاغية والإبلاغية ومن رمزيتها العالية؛ لأن تلك الطاقات والرمزية تفتح الأبواب أمام القراء والمجتهدين على مر التاريخ ليجد كل منهم في تلك النصوص ما يبحث عنه، وليصوغ بجهده وبمعرفته وبأدواته المنهجية في القراءة الجواب الذي يناسب عصره ويناسب فهمه ووعيه، وبهذا يعيش النص ويخلد، أما الاستمرار في التسليم بالقطعية كما فهمها القدامى فهو لا يعدو أن يكون استمراراً في الخضوع لسلطة الفهم الفقهي البشري للنص وليس للنص ذاته، وأؤكد على الفارق الشاسع بين الأمرين. فهل نحن ملزمون بالنص وفقاً لفهمنا البشري المتغير والمتحول بالضرورة أم ملزمون بفهم الفقهاء والمفسرين القدامى لذلك النص؟ هل من حقنا أن نستخدم أدوات المعرفة الحديثة ومنهاجياتها لفهم هذا النص مثلما فعل أسلافنا أنفسهم أم علينا أن نقتصر على ما فهمه أولئك بأدوات وطرائق تجاوزتها المعرفة الإنسانية وتجاوزها الزمن؟

  • ما أهمّ التحديات التي تواجهها المرأة العربية المسلمة في سعيها للمشاركة في الحياة العامة؟

تواجه المرأة العربية اليوم تحديات عامة هي نفس التحديات التي يواجهها المواطن العربي بصرف النظر عن جنسه، تحديات بعضها ذو مأتى خارجي مثل الهيمنة التي تمارسها القوى الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية القاتلة للقيم الإنسانية، وبعضها داخلي كالفقر والبطالة والجهل وتآكل الخدمات العمومية في الصحة والتعليم والعمل، وهي تعاني من هذه التحديات بشكل مضاعف أحياناً؛ إذ يكفي على سبيل المثال أن نشير إلى أن البنات يؤخرن في التمتع بحق التعليم على الأولاد، وإلى أن الخريجات الحاملات للشهادات العليا يؤخرن في حق الشغل على الخريجين، رغم التفاوت بينهما في نسب النجاح، وكل هذا لأنهن إناث ولأن الوعي الجماعي، الذي تتدخل الثقافة الدينية السائدة في بنائه، قرر أنه من الأولى أن يتمتع الذكور بتلك الحقوق قبل الإناث، هل يعني هذا أن المجتمع الذكوري يتحمل وحده مسؤولية هذا التمييز؟ لا أعتقد ذلك بل أرى أن المرأة نفسها تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية تبدأ أولاً من أساليبها في تربية الأبناء، وهي أساليب تعيد إنتاج التفوق والهيمنة الذكوريين، فالأم هي التي تزرع بواسطة أساليب التنشئة والمعاملة بذور الوعي الذي سيلازم أبناءها وبناتها في سائر أطوار حياتهم، وهي مسؤولة عندما تحدّ من مجال مساهمتها في الحياة العامة أو تمتنع عن الانخراط فيها تماماً، وكأن الحياة العامة ليست شأناً من شؤونها والحال أن كل شؤونها نتاج لتلك الحياة العامة.

  • طرحت فكرة أن «الروابط الاجتماعية يمكن أن تنحو منحى الانحلال في غياب الدين، لكن لا يمكن أن يُتّخذ ذلك حجّة للمطالبة بجعل القانون تابعاً للدين، ما قد يؤدّي إلى تحويل الدين من فرصة لتحرّر الإنسان إلى مؤسسة سلطوية متحالفة مع السلطة السياسية».. فهل ربط الدين بالقانون يُعد هو الحل الأنسب؟

أدرك، سواء من خلال المعاينة والمعايشة والبحث أو من خلال اطلاعاتي على الدراسات والبحوث الميدانية، أهمية الدين في تثبيت الروابط الاجتماعية وفي ترسيخ المجتمعات، وأنا مقتنعة بما برهن عليه عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم في هذا الشأن، ولكن في الوقت ذاته أدرك الفوارق بين الدين بوصفه رسالة وقيماً أخلاقية و”الدين الاجتماعي”؛ أي الدين كما يفهمه الناس ويتمثلونه ويعيشونه، وأعرف أيضاً الفوارق النوعية بين الدين والثقافة الدينية وبين الشريعة والفقه، التي يمكن اختزالها في الفارق النوعي بين المتعالي والتاريخي وبين الإلهي والبشري، وبناءً على كل هذه الفروقات أميز بين وظائف الدين في ذاته والوظائف التي مارسها الإنسان باسم الدين وتحت غطائه وشرعيته، ومن بين هذه الوظائف ما له صلة مباشرة وقوية بالسلطة الدنيوية، ومن بينها وظيفة التقنين، فقد مارس الفقيه عبر التاريخ سلطة التقنين باسم الشريعة وتحت غطائها والحال أنه مارسها بفهمه وتحت ضغوط واقعه وإكراهات سياقه، وهو في الغالب لا يدرك الفارق بين فقهه بوصفه معرفة بشرية تاريخية والشريعة بوصفها السبيل التي رسم الله في رسائله للإنسان معالمها حتى يفوز في الدارين وبوصفها القيم والأخلاقيات التي ليست هي القانون، بل يفترض أن تكون القاعدة الفلسفية والأخلاقية للقانون، وهذا ما أطالب به؛ تحرير القانون في العالم الإسلامي من سطوة الفقه والفقيه، وردّه إلى المنظومة القيمية والأخلاقية التي تقوم عليها رسالة الإسلام التي لا يمكن منطقاً وإيماناً أن تتعارض مع المنظومة الإنسانية للقيم وللحقوق.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

لقاءات خاصة

عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)

01-09-2024

ارسل بواسطة