تعدد أنماط التدين داخل المجتمعات الإسلامية
في ظلّ محاولات وسعي محموم للقوى الأصولية، وتيارات الإسلام السياسي، تصديرَ رؤية مغلقة للدين وتفسيراته، فإن اعتقاداً تلفيقياً ساد وكأنّه حقيقة مطلقة، مفاده أنّ الإسلام له نسخة واحدة لا يمكن الخروج عليها، أو حتى نقد مقولاتها؛ التي، ربما، تحتاج لنقاش على مستوى صحتها، ومدى ملاءمتها للواقع التاريخي الراهن، ومستجداته.
فمثلاً، المطالبة بعودة “الخلافة” أو “التطبيق الفوري للشريعة”، وغيرها من العبارات الترويجية التعبوية التقليدية، كـ”الإسلام هو الحل”، كان الإلحاح على ابتعاثها في المجال العام بهدف التنميط، وجعله يتسم بالبداهة والتلقائية ولا يمكن مقاومته.
التشدد والجمود
إن تصدير نسخة واحدة للدين، وضعت الاجتهاد ومحاولات الإصلاح الديني أمام معضلات عديدة، تسببت في الانسداد التاريخي والأفول الحضاري، بل وتعطيل محاولات الانعتاق من العنف والتشدد، ومعرفة التعدد الغني داخل الحضارة والتاريخ الإسلاميين؛ إذ اصطدمت أفكار المصلحين والمجددين بطبقة صلبة من مرجعيات التشدد، وبخاصة تحت وطأة سلاح التكفير.
التعدد قائم داخل الإسلام منذ اللحظة الأولى المؤَسِّسَة له؛ فهو يقبل التنوع ولا يقف ضده أو معادياً له. بل إنّ فضاءاته اتسعت لتأويلات شتى، بنفس درجة الانفتاح على حضارات وبيئات مختلفة وقوميات متباينة. وكل بيئة كان تلقيها مختلفاً عن الأخرى بحسب أنماطها الثقافية، وحمولاتها اللغوية، ودرجة تطورها.
ففي كتابه: “ديناميات الشريعة والتحولات الاجتماعية والسياسية”، لتيموثي دانيلز، فإنّه يؤكد على هذا المعنى الذي يفترض تعدد النماذج الدينية، في المجتمعات الإسلامية المختلفة جغرافياً وثقافياً، وعدم وجود نسخة واحدة. يقول دانيلز: “المجتمع ينتج أشكالاً متنوعة من الإسلام، بعضها على يد الحركات الإحيائية المعاصرة، والآخر على يد أنظمة الدولة، ويجسدها أفراد ينحدرون من خلفيات متعددة. يشكل المسلمون، مستندين إلى المعرفة المتضمنة في النصوص الدينية، تمثلات ذهنية ونماذج ثقافية وممارسات متجسدة متنوعة، منتجين بذلك تنويعة من الإسلامات المحلية. وترتبط النسخ المحلية من المفاهيم والممارسات الإسلامية وتتألف وتتداخل مع غيرها من الأفكار والسلوكيات الموجودة في السياسات الاجتماعية المحلية. وبهذا، نجد في المجتمع الواحد تمثلات وتركيبات ذهنية إسلامية متعددة، يتم بناؤها وإعادة إنتاجها وتغييرها عبر تحولات التنشئة الاجتماعية والفعل البشري”.
العامة والعلماء
أيضاً، فإنّ المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، في محاضرة له، ذكر أنّه في كل البلاد الإسلامية، وخاصة في المجتمعات التقليدية، يوجد إسلام العلماء وإسلام العامة، وبالخصوص في الريف وفي البوادي. ويردف قائلاً: “لو أردنا البحث من الناحية الاجتماعية وصف الثقافة التي كانت سائدة منذ نصف قرن، لوجدنا أن الثقافة الشعبية، والتي تختزن عناصر من الثقافة العالمة، تحتوي رواسب كثيرة من الثقافات المحلية، وحتى من العقائد الوثنية أو شبه الوثنية. غير أنّ الأمور تطورت وتغيرت على كل حال، منذ انتشار التعليم في البلاد الإسلامية عموماً”.
ويؤكد الشرفي أنه “في العصر الحديث وبعد حصول العديد من البلاد الإسلامية على الاستقلال السياسي، أسهم ما يسمى بـ”التمدرس”، أي انتشار التعليم والالتحاق بالمدارس، في خلق جيل جديد، يحمل عن الإسلام نظرة تختلف أحياناً اختلافاً كبيراً عن نظرة آبائهم وأمهاتهم، وأصبح الشباب المتعلم في المدارس ينظر إلى الآباء والأجداد على أنّهم لم يكونوا مسلمين كما ينبغي، هم مسلمون لا محالة لا ينكر عليهم ذلك، ولكن إسلامهم منحرف عما ينبغي أن يكون عليه، وهذا من أسباب السلوك الذي نلاحظه عند الجيل الذي انتقل من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة”.
ويشير الشرفي إلى أمثلة على فكرة التعدد وصدامه مع الانغلاق؛ حيث إنّه في قضية مثل إمامة المرأة في الصلاة، وما يقال على أنّه “من المعلوم من الدين بالضرورة”، فإنّ “إمامة المرأة للرجال لا تجوز، وإنّما الاختلاف هو هل تجوز إمامتها بالنساء أم لا تجوز؟ وهل تجوز إمامتها بالنساء في الفرائض أم في النوافل فقط؟”. فحين نقرأ بعض النصوص القديمة، حسب الشرفي، “نجد ما يلي: من الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء، والمؤلف وسترون، يقول: وبه أقول؛ أي أنّني أتبنى إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء، ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق بالرجال والنساء، ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال”. ثم يضيف: “والأصل إجازة إمامتها؛ فمن ادعى منع ذلك بغير دليل، فلا يسمع له ولا نص للمانع في ذلك. هذا الموقف موجود ونجده في الفتوحات المكية لابن عربي، لماذا لا نعلمه ونخبر به أبناءنا وبناتنا، وبذلك نخرج عن هذه الدوغمائية التي تميز تعليمنا في هذا المستوى”.
ويردف: “أضع عمداً على رأس هذه النتائج الفقر المعرفي في شؤون الدين؛ فمن هو سُني ويجهل كل شيء عن التشيع، فهذا فقير معرفياً، ونفس الشيء لمن هو إباضي ويجهل كل شيء عن أهل السُّنّة، إلى غير ذلك. وكذلك من يجهل عقائد الآخرين من غير أهل الملة. وما قيل عن هذا المنبر يوم أمس يكفي بالاستدلال على هذه الضرورة، وتجاوز هذا الفقر المعرفي السائد. والنتيجة الكبرى هي أنّ هذه الثقافة الدينية السائدة تكون عائقاً دون تبني القيم الكونية الحديثة، ومن أهم هذه القيم كما تعلمون الحرية والمساواة؛ إذ لا يمكن الفصل بينهما”.
الموروث المجتمعي
عائق التحديث الديني وتطوير الخطاب، تتسبب فيه سرديات الإسلام السياسي والقوى الأصولية، التي حاولت احتكار المعرفة الدينية، بينما قامت على تسييس الدين لأغراض براغماتية تتصل بالحكم، وفرض النمط السياسي والاجتماعي والقيمي المطلوب تحقيقه بدعوى التزامه بـ”الشريعة”، وفق نظرتهم ومجال رؤيتهم المحدود، وتبعاً لاشتراطاتهم المعرفية وما تحددها أدبياتهم.
والإسلامات المتعددة ترصدها الباحثة والمفكرة التونسية آمال قرامي، في كتابها: “الإسلام الآسيوي”، والذي هو ضمن سلسلة كتب أخذت عنوان “الإسلام واحداً ومتعدداً”؛ وقد عبرت عن دور المؤسسات الدينية والأنظمة والتيارات الإسلاموية في تكريس فكرة أحادية وتنميط الدين، باعتباره النسخة الصحيحة وتهميش ما عداها. لكن نظرة فاحصة على أنماط التدين والممارسات والأفكار النظرية، في مصر أو المغرب أو السعودية أو موريتانيا، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هناك نسخاً متعددة ومتباينة.
وتشير آمال قرامي إلى أنّ الإسلام قد انتشر بطرائق مختلفة في البلدان والقارات، وبعضها كان من خلال التجارة والدعاة، والأخرى باستخدام القوة والحروب؛ وتقول: “ساهمت الظروف الاقتصادية وطبيعة البنية الاجتماعية السائدة في الهند على دخول عدد من الفقراء في الدين الذي دعا إلى المساواة والمؤاخاة والعدل والرحمة وغيرها من القيم”.
كما انخرط الإسلام في بلدان لها تاريخ وتراث وممارسات عبادية، بينما لم يكن من الممكن أو المنطقي أن يُلغى هذا الموروث ويؤدي إلى أسلمة تامة ونهائية، يقضي بها على ذاكرة الشعوب. وتقول قرامي: “الإسلام احتفظ ببعض المعتقدات والطقوس السابقة عليه، مثل الحج إلى مكة والإيمان بالجن، وغيرها.. لكن الأجناس التي اعتنقت الإسلام، لا يمكن أن تتجاهل إرثها الحضاري المتنوع، وأن تجب ما عهدته من ممارسات”. ففي إيران، كانت البيئة والأوساط الاجتماعية تنتشر فيها ديانات مثل الزرادشتية والمانوية والمزدكية؛ الأمر الذي لامس الإسلام وتفاعل الأخير معه على حد تعبير قرامي، التي ترى أنّ “بعض العقائد تكاد تكون واحدة متطابقة مثل الإيمان بالقيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب والصراط”.
وقد تكرر الأمر ذاته في بيئة أخرى مثل الهند، والإيمان بقوى الأولياء والصالحين، حيث إنّ “من المظاهر الدالة أيضاً على التأثر بالهندوس، الاعتقاد بوجود الغول والإيمان بالقوة السحرية القادرة على حماية الإنسان من الأذى”. بل “كان على الإسلام أن يهضم بعض العادات والعقائد وأن يخلع المشروعية على بعض العادات والتقاليد السابقة، فتتحول نتيجة ذلك إلى ممارسات إسلامية وتضفى عليها القداسة”.
وتلمح المفكرة التونسية إلى اعتبار اللغة في تلك البيئات؛ الأمر الذي يوسع من الدلالات والمفاهيم، ويجعل النص حيوياً ومفتوحاً أمام تأويلات شتى تولد صيغاً ورؤى وممارسات تجديدية، لا تقف عند نسخة النشأة والتكوين. وتوضح قرامي أنّ “فهم القرآن في لغة أخرى يؤدي إلى فهم مُغاير للآيات.. فدور المجاز والرمز قد يقلص بشكل كبير، أو قد يولد دلالات أخرى.. إن قراءة القرآن في لغة غير اللغة العربية تولد دلالات خاصة، وحساسية مختلفة بالضرورة عن الحساسية الأصلية، باعتبار أنّ الفكر مشروط باللغة”.
ومن هنا، برز العديد من “المفكرين التجديديين في آسيا حاولوا الجمع بين مقتضيات الحداثة، من دون التنكر لما هو صالح من النظريات والحلول، التي فرضتها الممارسة التاريخية للإسلام”. وتقول قرامي: “لما كان الإسلام متعدداً على صعيد الفهم والممارسة، تعين على الدارس أن لا ينطلق من المفاهيم التي حددت للإسلام؛ بل من المجتمعات ذاتها، تلك التي ضبطت للدين وظائف مختلفة ومضامين متعددة. إذ إنّ أشكال التدين تختلف من مجتمع إلى آخر ومن فترة إلى أخرى، بل إنّ شكل التعبد يشهد تغييراً داخل المجتمع الواحد.. ومن العوامل التي أدت إلى اختلاف طريقة التعبد من بلد إلى آخر، تشبث كل جماعة بهويتها، وهي هوية مشكلة من العقائد والعادات وطرق التفاعل مع الطبيعة وغيرها من العناصر”.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.