رؤية عالمية:

أُسس الموقف الإنساني من منظور قرآني

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في عالمٍ متنوع، وكرّمه بالعقل وإرادة الاختيار والتكليف، فقد وهَبه العقل الذي يكون به التفكير والاستدلال والتخيّل والإدراك، وأعطاه إرادة الاختيار للوصول إلى الله تعالى وعبادته حق العبادة، والاختيار الحُر بين الاحتمالات وتحديد المواقف. وأكرم الله الإنسان، كذلك، بالتكليف بمعرفة دين الله وما جاء فيه من تعاليم وإرشادات روحية وأحكام لتطبيقها في حياته. وعليه، فإن المنظور القرآني تجاه العالم الواسع الذي خلقه الله تعالى، هو الذي يُحدد الأسس التي ينبني عليها الموقف الإنساني من كل شيء في هذا العالم.

الموقف الإنساني أمام الله

أوجب الله على الإنسان أن يؤمن به إلهاً واحداً لا شريك له، وأن يجتهد في ابتغاء مرضاته واجتناب ما نهى الله عنه، وأداء الفروض التي أمره الله بها، وأن ما عند الله هو خير وأبقى، وأن الله لا يظلم أحداً. وقد أمر المولى سبحانه وتعالى الإنسان أن يتجنب الظلم في أفعاله، وأن الحياة الدنيا هي دار مؤقتة غير دائمة، وأن الكيفية التي يحيا بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا هي ما تحدد مصيره في الآخرة التي هي دار البقاء؛ وقد خلق الله إرادة الاختيار في الإنسان بناءً على العقل الذي وهبه إيَّاه.

الموقف الإنساني تجاه أنفسنا

توجد واجبات قدّرها الله تعالى على الإنسان تجاه نفسه، ومنها:

أولاً، رعاية الجسد: بأن يحميه ويرعاه ويحافظ عليه، وألا يعرّضه لما يضرّه أو يؤذيه، بالابتعاد عن المكروهات، والنظافة والتقوية والتداوي دون إسراف أو تفريط، استناداً إلى تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان؛ ففي كتابه الكريم، يقول الله تعالى في سورة البقرة: “وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ” [البقرة: 195].

ثانياً، رعاية العقل: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٭ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ” [آل عمران: 190-191].

فالعقل منوط به الربط بين الحادثات، وتكوين المفاهيم والآراء واستنباط الأمور واتخاذ القرارات، واجتهادات التأويل لتعاليم الله، وواجبه التفكير الذي قد يصل إلى كونه فريضة إسلامية، ودونه لا يكون الإنسان مكلفاً أصلاً؛ بل لا يستطيع الإنسان الوصول إلى حقائق العلوم المختلفة التي تُستخدم في إعمار الأرض وإرساء الأمان فيها. ودون التفكير لا يصل الإنسان إلى النتائج التي تؤدي إليها الأسباب، فلا عمران ولا زراعة ولا شؤون عامة ولا فنون دون استخدام العقل في حركته، وهي التفكير، كما أمرنا الله تعالى في سورة طه: “وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا” [طه: 114].

ثالثاً، رعاية النفس: يقول الله سبحانه في سورة العنكبوت: “وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ” [العنكبوت: 69]؛ حيث إن الله تعالى أمر الإنسان برعاية نفسه وتزكيتها والاجتهاد في ترقّيها ومجاهدتها ومعرفة مراتبها، من نفس أمَّارة ولوَّامة ومطمئنة وراضية ومرضيّة، حتى يستطيع الإنسان أن يرقى بها ويزكّيها، وأن يسمو بدواخلها وبالسلوك الناتج عن حالتها.

الموقف الإنساني تجاه العالم

استتبع خلق الله تعالى الإنسان في عالَم متنوع ومتغير أن يكون على الإنسان استقراء موقعه تجاه هذا العالَم في عدة مواقف، بناءً على التفكير الذي هو وظيفة العقل، وعلى العناصر المتباينة في هذا العالم، واستناداً إلى التعاليم والإرشادات الروحية التي أنزلها الله في كتابه الحكيم.

أولاً، الموقف الإنساني تجاه الإنسان: إن وجود الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً وسط مليارات البشر، يستتبع تحديد موقف إنساني في المعاملات اليومية المؤقتة والدائمة.

أ. موقف المسلم تجاه الإنسانية: يأمر الله الإنسان بالعدل والخير والإحسان، وحسن الجيرة وطيب المعاملة، والوفاء بالعهد والحفاظ على الأمانات واحترام الخصوصية، وعدم البدء بالعدوان وضمان الحقوق في العموم مع كل الناس، دون تخصيص الإنسان المسلم بذلك، فهي إرشادات تجاه الإنسانية جمعاء، لأن الله هو رب الكون ورب البشر أجمعين.

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، في سورة النحل: “إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ” [النحل: 90].

ب. موقف المسلم تجاه المسلم: واجب المسلم تجاه المسلم هو واجبه تجاه الإنسانية جمعاء، ويزيد عليه الحماية والرعاية والتعاون الدائم في الخير، وأن يساعده وقت الضيق وفي المرض؛ فيقول الله تعالى في سورة المائدة: “وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ” [المائدة: 2].

ج. موقف المسلم تجاه الموجودات: العالَم الذي خلقه الله هو عالَم متعدد الموارد والخيرات، من أنهار وبحار وثروات معدنية ونبات وحيوانات وطيور مختلف أشكالها وأنواعها. وقد أحَلّ الله للإنسان التمتع بكل تلك الخيرات ما عدا ما حرّمه الله، وحثه على استخدامها لصالح حياته، من مأكل ومشرب ومسكن ووسائل انتقال، دون إسراف أو تبذير، وألا يجور على حق غيره في تلك الموارد، فالفرد لا يحيا وحده في هذا الكون.

ويقول الله سبحانه في كتابه الكريم، في سورة المائدة: “يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ” [المائدة: 4]. ويُردِف الله تعالى قوله “وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ”، بعد أن أحَلّ للناس “ٱلطَّيِّبَٰتُ”، وكأنما يذكّرهم بعدم الإفراط في التمتع بما خلقه للإنسان، أو الظلم والجور على الغير في التمتع بها.

وقد أمر الله الإنسان بالاعتدال في كل الأمور وعدم الإسراف؛ فيقول في كتابه الحكيم، في سورة الإسراء: “وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُوراً” [الإسراء: 29]. والإسراف لا ينطبق على إنفاق المال فقط، بل هو يسري على استخدام كل الموجودات مما أحَلّ الله للإنسان، فيقول الله تعالى في سورة آل عمران: “يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ” [الأعراف: 31].

الموقف الإنساني تجاه قضايا العصر

يواجه الإنسان كثيراً من المعضلات والمشكلات المحدَثَة كل يوم في هذا العالَم الكبير المتنوع، وقد أمرنا الله تعالى باستخدام العقل في التفكير في تلك المُحدَثات، بسبب تأثيرها في حياة الناس واختياراتهم وأمانهم الفردي والجماعي. وتجاه هذا العالم، من الضروري وجود واجب والتزام ومسؤولية وإيجابية تفكير وتفاعل ومشاركة بناءة في الرأي والفعل، والتفكّر والتدبّر في قضايا العصر الذي نعيش فيه، من اختراعات جديدة وقضايا إنسانية محدَثَة وآراء فكرية جديدة في الإنسان والموجودات.

 وختاماً، فقد جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض، كما في قوله سبحانه، في سورة البقرة: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ” [البقرة: 30]. وبالتالي، فأَولى بالإنسان التفكر والتدبر والفعل، مجانباً الظلم، ومجتهداً في الخير والبر والمعاملة بالحسنى، وتزكية النفس وعدم الإسراف، وحب الناس وتقوى الله في الأفعال والأقوال؛ وكل تلك المسؤوليات لا تستقيم دون معرفة أن الإنسان لا يحيا فرداً وحده في الأرض دون إفراط أو تفريط، لكي ترتقي الإنسانية إلى مصاف التكليف الإلهي.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة