دعوى مستغربة:

هل حرَّم القرآن تهنئة غير المسلمين؟

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

شاعت فتوى تحريم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؛ بدعوى أنها من باب الرضا عن معتقداتهم.. وذهب مَن أشاعوا هذه الفتوى أنها “محل إجماع فقهي”، مستندين إلى ما قاله ابن قيم الجوزية في كتابه “أحكام أهل الذمة”، وما قاله شيخه ابن تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم”، ومجاهد وابن سيرين في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا﴾ [الفرقان: 72].

فهل حقاً “أجمع” الفقهاء على تحريم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، اعتماداً على آيات القرآن؟ أم إن المفسرين استندوا إلى روايات ليست قطعية الدلالة؟

آراء الفقهاء

أولاً، ابن القيم: يقول إن التهنئة بشعائر “الكُفر” المختصة به حرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول “عيد مبارك عليك”، أو “تهنأ بهذا العيد” ونحوه، فهذا إن سلِم قائله من الكفر فهو من المحرمات، حسب قوله، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام، حسب قوله.

ثانياً، ابن تيمية: يقول لا فرق بين مشاركتهم -أي غير المسلمين- العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن “الموافقة في جميع العيد موافقة في الكُفر”، و”الموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر”، حسب قوله؛ بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها “موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره”، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه، حسب قوله.

أقوال المفسرين

في تفسير قول الله تعالى ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا﴾ [الفرقان: 72].

أولاً، تفسير مجاهد: قال في تفسير هذه الآية إنها “أعياد المشركين”، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى والضحاك.

ثانياً، ابن سيرين: قال في تفسير الآية: “الزور هو الشعانين، والشعانين: عيد للنصارى يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصح ويحتفلون فيه بحمل السعف، إحياء لذكرى دخول المسيح بيت المقدس”.

تأمل واستدراك

هذه الآراء التي أجمعت على “الكُفر” يمكننا تناولها بشيء من التأمُّل على النحو التالي:

أولاً: قال ابن القيم إن الفقهاء “قد أجمعوا واتفقوا على تحريم التهنئة”، وبالنظر إلى آراء الفقهاء في المذاهب الأربعة نجد أنها آراء “لبعض” فقهاء المذهب وليس ما عليه كل فقهاء المذهب.

ثانياً: لم يتناول أي فقيه منهم الكلام عن التهنئة صراحة، بل إن معظم كلامه مُنصبٌّ على “المشاركة في الطقوس الدينية وفعل ما يفعل أصحاب الديانات الأخرى في يوم عيدهم”.

ثالثاً: مطالعة آراء الفقهاء تُنبئ بأنها آراء “اجتهادية”، لم يتم فيها الاستناد إلى المصدر الأول والرئيس والأساسي في التشريع الإسلامي، ألا وهو القرآن الكريم، ومن استند منهم إلى بعض آيات الذكر الحكيم فقد أوَّل وفسَّر النص القرآني بفهمٍ لا يتسق مع سياق الآيات.

رابعاً: إذا كان مجاهد وابن سيرين قد ذهبا في تفسير قول الله تعالى ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا﴾ [الفرقان: 72].. إلى ما ذهبا إليه، فإن غالبية المفسرين قد ذهبوا إلى تفسيرات أخرى، فبعضهم، مثل الطبري، ذهب إلى أن الزور هو “الشرك بالله”؛ وقال بعضهم، مثل محمد بن الحنفية، هو الغناء؛ وقال فريق ثالث، كابن جريج، هو الكذب.

دعوى مستغربة

إن هذه الدعوى الموصوفة بـ”الإجماع” على تحريم مطلق لتهنئة غير المسلمين بأعيادهم تدخل في إطار المستغرَب، وذلك للأسباب التالية:

أولاً، لعدم ورود نص: فلم يرد نص في هذه المسألة يُلزم التسليم له (حتى لو لم نعرف علته).

فلا ورد في القرآن ولا جاء في السُّنة الصحيحة دليل خاص على حرمة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، مما يدل على أن الإجماع المنقول -إذا تحقَّق- لا بد أن يكون مستنداً إلى أصول شرعية عامة وقواعد يقينية معلومة، وليس حكماً تعبُّدياً لا نعرف له علة ولا حكمة.

ثانياً، الإجماع بلا إجماع: إن السماح بدعاوى الإجماع التي لا دليل عليها، يفتح مجال التشريع بما لم يأذن به الله، ويضيف إلى مصادر التشريع مصدراً لا علاقة له بالوحي ولا بمصادر التشريع المُجمَع عليها.

ثالثاً، الأصل هو الإباحة: هذه قاعدة فقهية راسخة تقول إن الأصل في الأمور الحل، إن لم يرد نص ينهى عن الفعل ويحرمه؛ وعلى هذا ذهب عديد من الفقهاء إلى جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، مستندين إلى قول الله تعالى: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. و”البر” هو اسم جامع لكل خير بمعنى الإحسان، أما “القسط” فهو العدل، والعدل لا يكون فقط مع غير المعتدين، بل أيضاً مع المعتدين.

وكما يرى الدكتور الشريف حاتم أن من لطيف التعبير في هذه الآية الكريمة “أنها جاءت بنفي النهي عن الإحسان والعدل، وليس بالأمر الصريح بهما، لأن الله تعالى يعلم أن الفطرة السوية التي فطرها سبحانه تميل إلى حب الإحسان والعدل مع غير المعتدي؛ فالنفوس الصحيحة تميل إلى ذلك بغير حث ولا تشجيع، ويكفيها بيان عدم النهي عنه ورفع التأثيم عليه لتسعى إليه وتعمل به، فجاء التعبير بعدم النهي اكتفاءً بدلالة الفطرة على حب هذا الفعل الفاضل”.

ومع أن الآية لم تخلُ من حث على البر وترغيب في القسط، من اسميهما نفسه “البر” و”القسط”، فهذان الاسمان المتضمنان وصفَي الثناء وحدهما، يدلان على الترغيب فيهما والحث عليهما، فمن ذا الذي لا يرغب في البر ولا يحب العدل والقسط؟ هذا، فضلاً عن ورود الترغيب في خاتمتها، في قوله تعالى “إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ”.

كما أن العدل قيمة ثابتة وواجب شرعي مع الجميع، سواء كان مسلماً أو غير مسلم أو معتدياً، فضلاً عن غير المعتدي، كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة: 8].

ومن هذا الأصل: الإحسان بالقول، ويدل عليه أيضاً على وجه الخصوص قوله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا﴾ [البقرة: 83]؛ حيث إن عبارة “للناس” تشمل المسلم وغير المسلم من الجنس البشري كله، فهذا أمر بالقول الحسن للناس كلهم، دون تخصيص.

وختاماً، يقول الله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ فمن مظاهر فضله سبحانه على الناس أن أرسل إليهم نبيه ليكون رحمة لهم بهذا الدين، دون تخصيص أو تمييز، فأرسله بما يسعدهم في دينهم ودنياهم.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة