اختلاف الآراء في إدارة "دولة المسلمين"
إحدى أهم إشكاليات الإسلام والمسلمين في العصر الحديث هو المشروع المسمَّى “الدولة الإسلامية”، أي التي تحكم بالشريعة الإسلامية؛ وهو مشروع قام على فكرة “الخلافة”، بمعنى استخلاف قائد، يحل محل النبي ويحكم بالشريعة الإسلامية. وهذا المشروع يتماس مع مقولة “الإسلام دين ودولة”، وهي المقولة مجهولة المصدر، لكن لم يذكر بحال أنها نُسبت إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، كما أنها بالطبع ليست نصاً قرآنياً.
فهل يوجد تأكيد أو نفي، بشكل واضح، لفكرة “الخلافة” في القرآن أو السُّنة؟
الإجابة عن هذا التساؤل تحتاج إلى جولة بين أروقة التراث الإسلامي؛ لبحث الآراء المؤيدة والرافضة لمفهوم الخلافة في الحكم.
خلاف الخلافة
بَقيت تسمية “دولة الخلافة” على مدار خمسة عشر قرناً من الزمان، لكنها تغيرت تغيرات جذرية من حيث طبيعتها السياسية؛ فانقسم تاريخ “دولة الخلافة” إلى عناوين فرعية تحت هذا الاسم، وأخذ كل عنوان قليلاً مما قبله، وأضاف وحذف حسب واقعه وظرفه.
فهل بدَّل الخلفاء المتعاقبون شيئاً ما في الوحي؟ أم إنه –أي الوحي- أتى بالفعل بدِين فقط، دون دولة؟
أولاً، الخلافة الراشدة: ضمت هذه الحقبة أربع خلفاء، تنوعت طرق اختيارهِم للمنصب أو وصولهم إليه؛ ففي “سِير أعلام النبلاء”، يقول الإمام الذهبي ضمن ما يقول عن خلافة أبي بكر: “قال زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: لما قُبض رسول الله قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر فأمَّ الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر”.
من هذا المَشهد، الذي تعدَّدت رواياته، يثبُت أنه لم يكن متفقاً على كيفية إدارة الأمور بعد وفاة النبي، فلا اتفاق على أن يكون له خليفة، ولا مَن سيكون ولا صفته، إنما حصل اختلاف في الآراء وقدَّم كل فريق رأيه وحجته حتى أقنع أحدهم الآخر.
ثانياً، حروب “الزكاة”: استهل أبو بكر “حكمه/خلافته” بالحرب مع كثير من قبائل العرب، ومنهم من كان على الإسلام، لكنه امتنع عن إرسال الزكاة إلى المدينة، فحدث خلاف بين كبار الصحابة على قتالهم، كما ورد في صحيح مسلم:
“حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَب، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ، وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ”.
عدة خلافات إدارية وسياسية بين أقرب الناس إلى النبي، ما يبدو معه أن الأمر في هذه الشؤون لم يكن محسوماً في أذهان المسلمين الأوائل، بمن فيهم كبار الصحابة.
في السياق نفسه، من المهم أيضاً ملاحظة الفرق بين تولية عمر بن الخطاب بتسمية مباشرة من الصدِّيق، ثم اختيار عمر سِتة شخصيات لتتشاور وتختار “خليفته”.. ومرة أخرى، نستدل بأنه لا وجود لشكل شرعي متفق عليه في هذا الأمر “السياسي/الديني” المُسمَّى “خلافة”.
ثالثاً، الدولة الأموية: مع استقرار أمر الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان استُحدث أمر جديد، وهو “ولاية العهد”، إذ أخذ البيعة لولده اليزيد ليصير الخليفة من بعده، وهو أمر جلل في تاريخ الإسلام والمسلمين، تناولَهُ الباحثان بدر بن هلال العلوي، وخلود بنت سالم باحشوان، في دراسة بعنوان “استحداث الخليفة معاوية بن أبي سفيان نظام ولاية العهد.. وردود الفعل التي واجهته”، لتدخل دولة العرب والمسلمين إلى طور سياسي جديد؛ فقد صارت السُّلطة مَلَكْية وراثية في بيت بني أمية.
رابعاً، الدولة العباسية: وبالمثل، لم يكن انتقال السُّلطة من البيت الأموي إلى العباسيين، قائماً على أي قواعد شرعية أو فقهية، إنما جاء “شديد الدموية”؛ فيقول ابن الأثير: “وأمر عبد الله بن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنُبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونُبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونُبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدوا جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك فإنه وُجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح”، لكنهم حافظوا على نهج التوريث العائلي، وعلى شرط أن الحكم في قريش، ما أبقى دولتهم على قيد الحياة -ولو اسمياً- قرابة سبعة قرون.
خامساً، الدولة العثمانية: ابتداءً، فإن العثمانيين أتراكٌ، وبالتالي كسروا بذلك شرط القُرَشية في الإمامة الكبرى، الذي استمر قرابة ألف عام، ما استوجب تدخلاً فقهياً لحل أزمة الشرعية في تلك الدولة “الدينية”، وهو أمر رصده الدكتور محمد الشوا، دكتور الفقه وأصوله، والأستاذ المساعد بالجامعة الإسلامية، منيسوتا، أمريكا، في دراسة فقهية مقارنة بعنوان “ولاية المتغلّب”، وفيها كتب مبحثاً بعنوان “قبول التغلب حالة استثنائية وضرورة كالميتة”؛ ومنه أقتبس: “القول بقبول حكم المتغلب -في مناطاته الخاصة- ليس أصلاً ولا تأصيلاً للتغلب، ولكنه -عند فقهائنا- حالة استثنائية وضرورة كالميتة، وتحمل لأخف الضَّرَرَيْن”.
واستدل على ذلك بأقوال الكمال بن الهمام الحنفي وعَلَاء الدِّين الحَصْكَفي؛ واختتم المبحث بالاقتباس من “منهاج السنة” لابن تيمية: “قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقل من خرج على إمام ذي سلطان، إلا كان ما تَوَلد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير”.
قراءة حديثة
الحديث حول مسألة شرعية إمامة المتغلب يدور الآن من حيث المبدأ، فلم تعد توجد “إمامة كبرى” أو “دولة خلافة”، فيقتصر الأمر على شرح دوافع الرأي الفقهي أو إبداء الرأي فيه بتبنيه من عدمه.
ويذهب البعض إلى تقديم قراءة حديثة لأحكام وآراء قديمة، ومنها:
رأي الشيخ العثيمين:
في “سلسلة لقاء الباب المفتوح”، سُئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين: “هل يجوز لعبد حبشيّ أن يكون إماماً أعظم؟”، فأجاب: “نعم، إذا يسّر الله للعبد الحبشيّ أن يكون إماماً أعظم فليكن إماماً أعظم، والرّسول إنّما قال ذلك في الاختيار، إذا أردنا أن نختار إماماً للمسلمين فلنختر من قريش، لكن من قريش الذين قاموا بالدّين، أمّا مجرّد الانتساب لقريش أو للرّسول فإنّه ليس بفضيلة إلا إذا اقترنت بالدّين، لو جاءنا واحد من قريش وقال: أنا أحقّ بالإمامة من غيره وهو فاسق، قلنا: لا، لأنّ من شرط الإمامة عند ابتداء الاستخلاف أن يكون عدلاً، لكن لو أنّ أحداً قهر النّاس وحكمهم فإنّه يجب السّمع له والطّاعة ولو كان عبداً حبشياً كأنّ رأسه زبيبة، ففرق بين الاختيار وبين أن يسطوَ أحد ويستولي على النّاس بقوّته، فهنا نقول: نسمع ونطيع ولا ننابذ إلا أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان”.
ما يعني، في المُجمل، أن على الناس الخضوع للإمام المتغلب ما لم يروا منه الكفر البواح، حسب قوله.
وحين أضاف السائل: “وهل يوجد الإمام الأعظم يا شيخ؟”. جاء رده: “لا، هذا من زمان، الإمامة العامّة فقدت من زمان، من عهد الصّحابة، ألم تعلم أنّ عبد الله بن الزّبير كان خليفة في مكّة والحجاز، وأنّ بني أميّة في الشّام وما ولاها، وأنّ فرقة أخرى في العراق منذ زمان، ولكن من تولّى على قطعة من الأرض وصار إمامها فهو إمام، نعم”.
وهو رأي يشي بأن صاحبه يرى شروط الإمامة الكبرى بشكلها، الذي يراه شرعياً، قد انتفت مع نهاية حقبة الخلافة الراشدة. وبذلك يمكن القول إن الشيخ يرى في توريث الحكم عائلياً خروجاً عن شروط الإمامة الكبرى، لكنه يتبنى الرأي القائل بالخضوع لتلك السلطة، ما لم يُظهر صاحبها الكفر البواح.
وختاماً، في عموم تاريخ “دولة الخلافة”، لم يُعرف شكل واحد معتمد لاختيار “الحاكم/الخليفة/الإمام”، وأكثر الأشكال التي تمتلك سنداً قرآنياً هو “الشورى”. أما القائلون بنظام حكم الخلافة في الدول المسلمة، فنُحيلهم إلى ما قاله شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، إنها “لم يرد بها نص في القرآن الكريم، ونحن أهل السنة نعتقد تمام الاعتقاد أن النبي ترك أمر الإمامة أو الخلافة للشورى واختيار المسلمين”.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.