حلقة مفرغة!:

الإشكاليات المعرفية في تحديث الخطاب الديني

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

مَثَّل تنامي وصعود التيار الأصولي والسلفي، وتراجع التيارات الأخرى الإصلاحية ومقارباتها المنفتحة المتنوعة، على اختلاف مرجعياتها ومناهجها، أزمةً في العقل العربي والإسلامي، والذي هو عقل مقاصدي يهدف إلى تحقيق المصلحة، ويتخطى ما هو ظاهري في النصوص والخطاب الديني، ليتبين المعنى والجوهر وكذا أصل الدعوة وغايتها.

وكل ذلك يتطلب بإلحاح أن يكون العقل في ذروة النشاط والاجتهاد، ولا يتخوف من أي إكراهات، مادية أو معنوية، ليتلمس المقاصد والدلالات ووضع رؤى مستقبلية.

مفكرو النهضة

أدى تراجع التجديد والإصلاح إلى تسيد المرجعيات الأصولية والأفكار والمقاربات التراثية التقليدية. وعزا بعض المفكرين حدوث تلك الانسدادات الفكرية في مجتمعاتنا الإسلامية، نتيجة المحاولات التي درج عليها مفكرو النهضة على مدار قرنين من الزمان، منذ مطلع القرن التاسع عشر؛ وهي محاولات توفيقية تبنتها مشاريع التحديث، لجهة الدمج بين التراث والعصر، أو بين العلم والدين، ومحاولة تكريس الأخير باعتباره ضرورة لشرعنة القبول بالإجراءات السياسية أو القيم والأفكار العلمية.

فقد جاءت إشكالية الأصالة والمعاصرة، لتكون مثل دائرة لا نخرج من إغراءاتها لابتعاث الجدل، مع الصدمة الحضارية التي تولدت عن احتكاكنا المباشر بالغرب، في أوائل القرن التاسع عشر. و”لقد كان العرب قبل ذلك مجموعة من المجتمعات شبه المغلقة، التي لم يكن الغرب يتصل بها إلا عن طريق أفراد مغامرين، يدفعهم حب الاستطلاع إلى المجازفة بدخول هذه الأرض المجهولة المشوقة المليئة بالغرائب، أرض السحر والحريم وألف ليلة وليلة، فيقيمون فيها فترة قد تطول أو تقصر، ثم يعودون إلى الدهشة، أو الاستعلاء، أو المبالغة، وتستهدف إبهار القارئ في بلادهم أكثر مما تستهدف الوصف الأمين لما هو موجود في بلادنا”، حسبما يوضح المفكر المصري فؤاد زكريا في كتابه: “خطاب إلى العقل العربي”.

 مواجهة حضارية

غير أن القرن التاسع عشر حمل معه مواجهة من نوع آخر؛ مواجهة حضارية شاملة، كان لا بد أن تحدث بعد أن جاءت أوروبا إلى بلادنا حاملة معها كل نواتج نهضتها الحديثة، من علم نظري وثقافة عقلانية وأسلحة متفوقة، ونهم شديد إلى التوسع والسيطرة على أسواق العالم. ومنذ ذلك الحين، أصبح الشغل الشاغل للعقل العربي هو التساؤل، عما ينبغي أن يكون عليه موقفه من هذه المواجهة: هل يحتمي بتاريخه وتراثه الماضي، ويتخذ منه “درعاً” أو “شرنقة” تدفع عنه غوائل التيار الكاسح المتدفق من بلاد غربية متفوقة، أم يُساير التيار الجديد آملاً في أن يكون له نصيب في ذلك التقدم المادي والمعنوي، الذي حقق للحضارة الأوروبية تفوقاً ساحقاً على سائر حضارات العالم القديم؟

ويجيب فؤاد زكريا: “كانت المشكلة إذن مطروحة في صورتها العامة، وفي الكثير من تفاصيلها منذ ما يقرب من قرنين؛ ولكن العبارات التي صُنعت بها كانت تتباين من مرحلة تاريخية إلى أخرى، لكن المرء يكون واهماً لو اعتقد أن نوع المفاهيم المستخدمة في طرح المشكلة، لم يكن له تأثير على طريقة فهمنا للمشكلة نفسها، وأن المسألة كلها مجرد ألفاظ متباينة تعبر كلها عن جوهر واحد. فحقيقة الأمر أن الألفاظ التي نعبر بها عن المشكلة تؤثر إلى حد كبير في بلورة تفكيرنا إزاءها، وتحديد موقفنا منها”.

إذ إن طرح قضية الأصالة والمعاصرة على شكل بدائل ثلاثة تتمثل في التمسك بالأصالة، أو السير في طريق المعاصرة، أو القيام بمحاولة توفيقية للجمع بين الاثنين، إنما يُثير إشكالات تزيد من تعقيد القضية، وتجعل الوصول إلى رأي حاسم فيها أمراً يكاد يكون مستحيلاً.

فالبديل الأول، وفق صاحب “الصحوة الإسلامية في ميزان العقل”، أي التمسك بالأصالة، يفترض أنه من الممكن أن نعيش في ظل أصالتنا، وحدها، ما دام أصحاب هذا الرأي ليسوا ممن يسعون إلى التوفيق بين “الأصالة والمعاصرة”؛ ومعنى الأصالة في نظر هؤلاء هو “العودة إلى الأصل”، أي إن المطلوب من المجتمع في ظل هذا البديل، هو أن يعيش في ماضيه دون حاضره، وأن يستلهم التاريخ ويبني حياته على أساسه. فهل هذا بديل معقول من الناحية النظرية، أو ممكن من الناحية العملية؟

هل يستطيع أي مجتمع أن يجمد التاريخ ويتشبث بفترة واحدة منه، ويتجاهل كل ما قبلها وما بعدها، ويجعل من هذا الماضي حاضراً أبدياً لا يسري عليه التغير، ولا يخضع لتقلبات الزمن؟ وهل يمكن أن يعيش أي مجتمع بأمجاد ماضيه وحدها، وينسى أن ما كان “مجداً” في عصر معين قد يصبح “تخلفاً” إذا ما نقل بحذافيره إلى عصر آخر؟ كما يتساءل زكريا، في حين يؤكد وبما يحمل إجابة ضمنية بأن إشكال البديل الأول هو في كلمة واحدة، أنه يلغي التاريخ، على حين أن التاريخ ليس مما يمكن إلغاؤه.

المقدس والدنيوي

وبالتالي، الأزمة هنا ليست في الخيار بين بدائل، وكأن الصراع بين التراث والحداثة أو الدين والعلم يفترض انتصار أحدهما وهزيمة الآخر، إعلان الطاعة للأول وتفوق الثاني. هذه النظرة التي كرستها التيارات الأصولية المتشددة، ساهمت فيها كذلك المحاولات التوفيقية التي لم تفصل أو تحد، بشكل معرفي إبستمولوجي، بين المفاهيم وبعضها باعتبارها مجالات لها حيزها المستقل، والذي يختلف عن حيز الديني المقدس الفردي، بوظائفه وضروراته الإيمانية المرتبطة بالسؤال الوجودي وغيره من أمور.

بيد أنه لا تزال قضية مثل العلاقة بين الإيمان والعلم من المسائل المعلقة، بل المضطربة في الذهنية الإسلامية؛ في حين أن أكثر ما يلفت النظر، في تطور الحضارة الإسلامية، أن المشكلة النظرية المتعلقة بموقف الدين من العلم لم تؤثر كثيراً في الممارسات الفعلية للعلم بين المسلمين. فقد كانت الآراء تتعدد وتتعارض، على المستوى النظري، بين مؤيد متحمس ومتسامح ورافض، دون أن تستقر على وجهة نظر نهائية تتبناها الجماعة الإسلامية إزاء النشاط العلمي؛ أي إن احتمال عدم قبول العقيدة للعلم -على الأقل من خلال بعض التفسيرات الخاصة لها- ظلت قائمة على الدوام. ومع ذلك، فإن هذا لم يمنع العلم من أن يواصل مسيرته، ويحرز في أحيان معينة نجاحاً رائعاً.

ويمكن القول إن شيئاً كهذا حدث في فترة حاسمة من تاريخ الحضارة المسيحية، هي فترة عصر النهضة وأوائل العصر الحديث، حين كانت معارضة الكنيسة للتيار العلمي الجديد على أشدها؛ ورغم ذلك فقد ظهرت في تلك الفترة بعض أهم الكشوف التي أرست دعائم النهضة العلمية الحديثة، وإن دلت هذه الظاهرة على شيء فإنما تدل على أن سعي الإنسان إلى المعرفة، وفق زكريا، وبخاصة في الفترات التي يكون الاندفاع فيها قوياً والحماس متأججاً، يواصل طريقه بصرف النظر عن نتيجة المجادلات النظرية حول مشروعية العلم من وجهة النظر الدينية.

ومع هذه الأزمات، يكاد يوجز المفكر علي مبروك هذا الوضع الارتدادي والنكوصي في الفكر العربي والمسلم إلى الوقوع تحت وطأة الغربة، وهي غربة تجمع عاملين: أحدهما، الوقوف على هامش التاريخ من دون قدرة على ملامسة التقدم، أو تعيين ذاته داخل ما يعتبره “جوهره الأصيل”، والعودة إلى التراث بالكلية؛ وثانيهما، عدم القدرة على، أو بالأحرى الإخفاق في، المساهمة بالحضارة من خلال الإنتاج المعرفي، كما يقول في كتابه: “الحداثة العربية بين العقل والقوة”.

ختاماً، فإن حالة الإخفاق والتداعي المستمر للتحديث الديني من ناحية، وتحريره من الإطارات الأيديولوجية الجامدة والأنساق المغلقة والقراءة التاريخية له، هو استمرار لمحاولة تكييف الواقع والمفاهيم في فضائه مع التراث، والحصول على شرعية من خلال مطابقته وإياه؛ وتصبح عملية “أسلمة” دؤوبة لكافة عناصر الحياة، وإيجاد شبيه لها في التراث ولدى السلف، حتى تمنحها الأصالة.

وهي أمور ينفتح حولها الجدل، ويتتابع حولها النقاش، بنفس آليات الصراع القديم، منذ كان طرفاه “العمامة” و”الطربوش”. فالديمقراطية هي الشورى والمواطنة نموذجها في “العهدة العمرية”، وغيرها من أمثلة يجري مطابقتها مع أحوالها التراثية والسلفية. ولا ينتهي الحال سوى بمزيد من الخلط والتشويه وعدم ضبط المفاهيم، بما يؤدي لتغييب أي قدرة على إيجاد شروط جادة نحو مشروع عقلاني له أسسه المعرفية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة