حرية الإنسان:

رفض الفقهاء وعقلانية القراءة المعاصرة

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

كانت استقلالية قدرة الإنسان الحر عن قدرة الله، في المخيال الفقهي، تعني بالضرورة خروج الإنسان من تحت وصاية رجال الدين؛ وعليه استندت الجبرية اللاهوتية إلى القدرة الإلهية المطلقة، لإنكار وجود حرية الإرادة الإنسانية بشكل ينفي، في بعض الأحيان، إرادة الإنسان بشكل كلي، بداعي أنّ المشيئة الإلهية لا بد أن تتحقق بالضرورة، ذلك أنّ كل ما يفعله الإنسان محتوم. وهو ما يتماهى مع توصيف حسن حنفي: “الإنسان هنا مُتلقٍّ ومُتلقٍّ فقط، وفق مبدأ عبودية الإرادة”.

وبالتالي، كان من الطبيعي أن تنظر المنظومة الفقهية لمؤسسة الرق، ذلك أنّ بنيتها لم تكن لتنتصر أبداً للحرية الإنسانية، حيث مارست دعوتها كل أشكال التأويل؛ لنفي القدرة الإنسانية على الفعل، وأرجعت الأمر كله للإله الواحد “ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۚ”.

تأكيد الجبرية

كان أبو حنيفة ممّن قالوا بالجبر، حيث أحال على رواية لابن مسعود تقول: “تكون النطفة في الرحم أربعين يوماً، ثم تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون مضغة أربعين يوماً، ثم ينشأ خلقه… فيقول يا رب(!)، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما رزقه؟”. وهو ما قرره الطحاوي، فيما نقله عن أبي حنيفة وأتباعه، قائلاً: “والسعيد من سعد بقضاء الله تعالى، والشقي من شقي بقضائه”. وأكد ابن تيمية ذلك قائلاً:” إنّ أبا حنيفة من المقرين بالقدر، باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه، وكلامه في الرد على القدرية معروف في الفقه الأكبر، الذي بسط فيه الحجج في الرد عليهم بما لم يفعله غيره”.

وبالاشتباك مع جملة المقولات التي تبدو متضاربة عند أبي حنيفة، يمكن القول إنّه يقول بالإرادة المجازية للإنسان، وهو قول يتفق فيه مع الأشاعرة، والدليل على ذلك قوله: “إنّ الاستطاعة التي يعمل بها العبد المعصية، هي بعينها تصلح لأن يعمل بها الطاعة، وهو معاقب في صرف الاستـطاعــة التي أحــدثـها الله فيـه، وأمـــره أن يستـعمـلها في الطـاعـة دون المعصية”. لكنّه سرعان ما يرتد إلى القول بالجبر المطلق، فحين سُئل: “هل يسع أحد من المخلوقين، أن يجري في ملك الله ما لم يقض. فقال لا، إلّا أنّ القضاء على وجهين منه أمر، والآخر قدرة. فأمّا القدرة فإنّه لا يقضى عليهم ويقدر لهم الكفر ولم يأمر به. بل نهى عنه. والأمر أمران أمر الكينونة، إذا أمر شيئاً كان، وهو على غير أمر الوحي”.

ثم يذهب أبو حنيفة في نهاية الأمر إلى إغلاق باب التفكير في المسألة برمتها، حيث يقول: أما علمتم أنّ الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظراً ازداد حيرة”. وحين سأله أحدهم: “كيف يقضي الله الأمور كلها، ويجري على مقتضى قدره وقضائه، ويحاسب الناس على ما يجيء على أيديهم من عمل؟”؛ قال: “هذه مسألة استصعبت على الناس فأنى يطيقونها(!)، هذه مسألة مقفلة، قد ضل مفتاحها، فإن وجد مفتاحها علم ما فيها، ولم يفتح إلّا بمخبر من الله يأتي بما عنده ويأتي ببينة وبرهان”.

من جهته، استدعى الإمام مالك مصطلح “علم الله الأزلي” الناتج عن إرادة الله ومشيئته؛ التي تؤطر كل شيء، لينفي حرية الإنسان وقدرته على خلق أفعاله. وبدوره يقول الشافعي إنّ “مشيئة العباد هي إلى الله تعالى، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فإنّ الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي من خلق الله تعالى”.

ويُعد الإمام أحمد بن حنبل نموذجاً لنزوع أهل الحديث تجاه الجبر، وكان يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنّ ما يفعله الإنسان بقدرة الله وإرادته، فلا يقع في ملكه إلّا ما يريد، ولا يصدر عن العبد شيء لم يهيئه الله له؛ لذلك كان يحمل بقسوة على القدرية، ولا يقر الصلاة معهم.

ويقر الإمام أحمد بالجبرية المطلقة، التي تجلّت بوضوح في كتابه “عقيدة أهل السنة”، الذي أملاه على القاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى؛ “فالقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، من اللّه، قضاء قضاه، وقدر قدّره، وكل الناس صائرون إلى ما خلقه الله لهم، فالزنى والسرقة وشرب الخمر، وقتل النفس وأكل المال الحرام، والشرك باللّه والمعاصي كلّها بقضاء وقدر، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللّه حجّة، بل للّه الحجّة البالغة على خلقه. فالله علم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها. وكلّ يعمل لما خلق له، وصائر لما قضى عليه وعلم منه، واللّه الفاعل لما يريد، الفعّال لما يشاء”.

ويؤكد ابن حنبل بإصرار على أنّ الإنسان مجبر على الشر، قائلاً: “من زعم أنّ الزنى ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة، حملت من الزنى وجاءت بولد، هل شاء اللّه عزّ وجلّ أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا. فقد زعم أنّ مع اللّه خالقاً وهذا هو الشرك صراحاً. ومن زعم أنّ السرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام، ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أنّ هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية”.

وتبدو الإشكالية الرئيسية في تناول فكرة الحرية الوجودية للإنسان، في الكلاسيكيات الإسلامية، هي محاولة التوفيق بين قدرتين: قدرة أعلى مطلقة تمثلها إرادة الله، وقدرة أدني محدودة تمثلها القدرة الإنسانية على الفعل، وفشل الجبرية في تقديم طرح إنساني يعطي تصوراً مقبولاً من الناحية العقلانية لهذه الإشكالية، فقدموا في مقابل ذلك طرحاً امتناعياً، بينما حاول القدرية تقديم نظرية ذات شقين: يتمثل شقها الأول في ضرورة تأكيد الفعالية الإنسانية وتأكيد وجود إرادة حرة، بينما يتمثل الشق الثاني في رفض الروايات التي تروج للجبر.

تحرير الإرادة

ارتكز القدرية، وعلى رأسهم المعتزلة، على مبدأ أنّه “معلوم أنّ الله يحب الإيمان، ولا يرضى الفساد ولا الكفر لعباده، على ذلك فإنّ المعاصي واقعة دون مشيئته وإرادته”. كما أنكر المعتزلة المشيئة والخلق، ومن الخلق خلق أفعال العباد، فقالوا بأنّ “العبد هو الذي يخلق فعله وليس الله”. كما ذهب المعتزلة إلى أن “الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، فوجب عليه إنفاذ وعده ووعيده، وأنّ المطيع يحصل على الثواب عن طريق الاستحقاق، لا على سبيل التفضل”.

من جهة أخرى، حاول الأشاعرة تقديم طرح جديد، فقالوا بنظرية “الكسب”، وهي ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به، فأفعال العباد ليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيار من غير أن يكون منه تأثير. وقد اختلف الأشاعرة في معنى الكسب؛ فمنهم من اعتبره العقد أو النية، ومنهم من جعله القدرة التي يقع بها الفعل.

ويبدو التأثير الأشعري حاضراً بقوة عند محمد عبده، الذي يقول إنّ “القضاء هو علم الله السابق بحصول الأشياء على أحوالها في أوضاعها، أمّا القدر فهو إيجاده لها عند وجود أسبابها”. وبعبارة أخرى، هو يرى أنّ القضاء والقدر لا يعنى الجبر، وإنّما يعنى أسبقية العلم الإلهي.

قراءة معاصرة

في قراءته المعاصرة، يقف المفكر الراحل محمد شحرور عند مفهوم علم الله، بوصفه علماً تجريدياً معزولاً عن الحواس، ويحمل صفة كمال المعرفة، وهو يقيني كامل بالأحداث والأشياء القائمة والموجودة فعلاً؛ ولكنه، في رأيه، احتمالي في السلوك الإنساني الواعي؛ فالله تعالى يعلم كل الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان، سواء في طعامه أو شرابه أو لباسه أو عمله، ولا يمكن لأي أحد أن يفاجئ الله؛ “فمثلاً احتمالا الإيمان والكفر موجودان في علم الله، ولما آمن أبو بكر لم يفاجئ الله تعالى، ولما كفر أبو جهل أيضاً لم يفاجئ الله تعالى، ولو كان في علم الله منذ الأزل أنّ أبا بكر سيكون مؤمناً لأصبح علمه ناقصاً ومختصراً باحتمال واحد، ولو كفر أبو بكر لسبب ما؛ لفاجأ الله تعالى، وهذا عين نقصان المعرفة”.

وعليه، فإنّ الله يعلم كافة الاحتمالات لكنّه ترك الإنسان ليقرر، وبعدها انتقل خياره من احتمال إلى واقع مسجل عليه ومسؤول عنه، وفق قوله سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: 29].

أمّا قضاء الله عند شحرور، فهو لا ينفذ إلّا من خلال المقدرات ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ [الأحزاب: 38]. أي القوانين الموضوعية للكون، وقضاؤه النافذ غير أزلي، ولو كان نافذاً منذ الأزل لقال (فإنّما يقول له كن فكان). فقد أطلق القدرة بـ “يكون”، وهذا الإطلاق قابل للتغيير والتبديل، تبعاً لمشيئة الله ولموقف الإنسان، وفيما عدا قوانين الكون (الأقدار)، التي لا تتبدل كالليل والنهار، والموت والحياة، ودوران الأرض، وتعاقب الفصول، وتشكل الغيم، يستطيع الإنسان بما أوتي من معرفة أن يقضي في الموجودات.

وختاماً، فقد حررت القراءة المعاصرة إرادة الإنسان بشكل مطلق، كفاعل ضمن قوانين الله المقدرة في الكون، بحيث إذا أدرك الإنسان هذه القوانين، نجح في ممارسة حياته حراً، والحفاظ على عمره لأطول وقت ممكن، والبحث عن المزيد من الرزق المقدر سلفاً في الطبيعة، دون أن يكون قدراً لهذا دون ذاك، فبمقدار عملك يكون نصيبك من هذا الرزق؛ لنصبح أمام فاعل حر ومسؤول عن أفعاله بشكل كامل.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة