حد الرِدَّة:

تعارض فقهي مع حدود التنزيل الحكيم

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

مصطلح “الحد”، وجمعه “حدود”، في الفقه الإسلامي يعني “عقوبة مقدرة من الله”؛ وقد أقر القرآن عدداً من الحدود لبعض الجرائم بالتحديد، لكن الفقهاء زادوا على الحدود القرآنية حَدَّين وعدَّلوا ثالثاً.

الردة واحدة من الجرائم غير المنصوص عليها في القرآن، إلا أن الفقهاء وضعوا لها عقوبة الإعدام ضرباً بحد السيف؛ وبموجب هذا الحد، اُغتيل الدكتور فرج فودة وتعرَّض نجيب محفوظ للطعن وغيرهما، واستند الفقهاء في إقرار هذا الحد القاتل على الحديث.. رغم اختلافه مع القرآن.

 الحدود القرآنية

طبقاً للنص القرآني، توجد خمس جرائم لها حدود معلومة ذُكِرت صراحة في آياته، فشمل النص الجريمة وعقوبتها بشكل محدد، ومع ذلك تعطَّلت بعض الحدود وجُمِّدت، إما طبقاً لرؤية الحاكم، وإما بفعل القوانين الوضعية، التي صارت تناسب الحياة الحديثة أكثر، فيما أصر الفقه وأهله على استمرار حُكم لم يَرد فيه نص قرآني.

 أولاً، إضافات بشرية: على يد الفقهاء ورجال الدين زادت الحدود إلى سبعة، بإضافة حد لشرب الخمر وحد الردة، وأيضاً جرى تعديل حد الزّنا ليشمل الرجْم بجانب الجلد.

هكذا أصبح هؤلاء الفقهاء يقولون إن الله أقر عقوبات قاتلة، لكن لم يذكرها في كتابه، وترك الأمر استناداً إلى بعض الروايات؛ ولن يتسع المجال لمناقشة العقوبات الزائدة كلها، لذا سنبدأ بحد الردة، لكونه يتعارض بشكل صريح مع القرآن والسُّنة وحتى التاريخ.

ثانياً، تعارض مع التاريخ: يقدم كثير من غير المتخصصين، أو أصحاب الخطاب الشعبوي، “حروب الردة” دليلاً على وجوب قتل المرتد، لكن هذا الادعاء ينافي الحقيقة التاريخية لهذه الحرب.

1- حروب الردة أم الزكاة؟: هذه الحرب كانت سياسية اقتصادية، وكان الأدق أن تُسمى “حروب الزكاة”، نسبة للقبائل التي بقيت على الإسلام لكنها رفضت الاستمرار في إرسال الزكاة إلى المدينة بعد وفاة النبي، وفي هؤلاء قال أبو بكر جملته الشهيرة: “واللَّهِ لو مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهِ” (من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري).

حدث بالقطع أن ارتدت قبائل عن الإسلام، لكن كانوا جزءاً من كل، فقد ضمت قائمة الأعداء مرتدين ومانعي زكاة ومدعي نبوة، والنموذج الأخير هو الأشهر تاريخياً. فمن أشهر أعداء المسلمين في تلك الحروب “مُسيلمة الكذاب”، وهو لم يكن من المسلمين ليرتد أصلاً(!).

2- مرتدون في عهد الفاروق: يُحكى أنه في عهد عمر بن الخطاب، وخلال إحدى المعارك مع الساسانيين عند مدينة “تستر”؛ ارتد ستة مقاتلين عن الإسلام وانضموا لجيش الأعداء وشاركوا معهم في قتال المسلمين، فكان مصيرهم القتل خلال المعركة، وبخصوصهم وردت رواية في “السنن الكبرى” للبيهقي، منسوبة لأنس بن مالك أنه قال: “لَمَّا نَزَلْنَا عَلَى تُسْتَرَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْفَتْحِ، وَفِي قُدُومِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ عُمَرُ: يَا أَنَسُ! مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟، قَالَ: فَأَخَذْتُ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لِيَشْغَلَهُ عَنْهُمْ، قَالَ: مَا فَعَلَ الرَّهْطُ السِّتَّةُ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَلْ كَانَ سَبِيلُهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ؟، قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَبَوَا اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ” (حسنه الألباني في “التعليقات الرضية”).

فهل يُعقل أن نسي الفاروق أحد حدود الله أو لم يعلم به؟

 ثالثاً، تعارض مع السُّنة: يعتمد الفقهاء القائلون بحد الردة على حديثَين اثنين: الأول، رواه عبد الله بن مسعود ويقول: “لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ” (المصدر: صحيح البخاري). والثاني، رواه عبد الله بن عباس ويقول: “مَن بدَّل دينَه فاقتُلوه” (المصدر: صحيح البخاري).

وبعيداً عن قواعد الجرح والتعديل، وغيرها من التفاصيل، سننظر إلى نماذج أخرى من السُّنة النبوية وما جاء فيها من روايات وأحاديث، ونرى موقفاً عملياً للنبي عليه الصلاة والسلام في التعامل مع مرتد.

1- موقف النبي من تنفيذ الحدود: معروف عن النبي عدم التهاون في حدود الله، ورفضه أي شفاعة في هذا الشأن؛ ومن أشهر الروايات في هذا، رواية المرأة المخزومية المذكورة في “صحيح البخاري”، وكانت امرأة من بني مخزوم سرقت، فحاول أهلها التدخل حرصاً على سمعة بني مخزوم وقريش عامة بين العرب، فكان الرد الشهير للنبي: “والله لو فاطمة بنت محمد سرقت… لقطعت يدها”.

مِن البدهي، أن مَن رفض العفو عن امرأة ذات حسب ونسب لأنها سرقت، مستحيل أن يعفو عن مُرتد من الأعراب، وهي واقعة منسوبة للنبي ووردت في صحيح البخاري أيضاً.

“إنَّ أعْرَابِياً بَايَعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى الإسْلَامِ، فأصَابَ الأعْرَابِيَّ وعْكٌ بالمَدِينَةِ، فأتَى الأعْرَابِيُّ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أقِلْنِي بَيْعَتِي، فأبَى، فَخَرَجَ الأعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما المَدِينَةُ كَالكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، ويَنْصَعُ طِيبُهَا” (الراوي: جابر بن عبدالله – المصدر: صحيح البخاري).

فهل نشك أن النبي يناقض نفسه؟ أم الأَولى أن نشك في صحة الروايات المتناقضة مع النص القرآني؟

رابعاً، تعارض مع القرآن: يتعارض عدد لا بأس به من الآيات مع فكرة قتل المرتد؛ إذ تؤكد عدم وجود “عقاب بشري” للمرتد، وأن عقابه أخروي عند الحساب.

يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]. ويقول سبحانه: ﴿كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ٭ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ﴾ [آل عمران: 86-88]. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ﴾ [آل عمرآن: 90.]

ويقول عزَّ وجل: ﴿مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [النحل: 106].ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحۡزُنكَ كُفۡرُهُۥٓۚ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٭ نُمَتِّعُهُمۡ قَلِيلٗا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٖ﴾ [لقمان: 23-24].

كما توجد آيات أُخريات يُخاطب فيها الله نبيه عليه الصلاة والسلام، ليؤكد له أن مهمته هي البلاغ ليس إلا، ولا علاقة له بالنتيجة: ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ﴾ [الرعد: 40].

وتأكيداً أن الدعوة لن تنال قبول جميع الناس، وليس من حق النبي أن يُكرههم على الإسلام ولا أن يحاسبهم على عدم قبولهم له، يقول تبارك وتعالى: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعاًۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ﴾ [يونس: 99].

 وختاماً، إن حد الردة يَحرم الإنسان من اتخاذ قراره الإيماني بمحض إرادته الحرة، التي سيحاسب على أساسها؛ فلو ارتد وقُتل سيفقد أي فرصة للتراجع عن موقفه، ولو كان متشككاً سيكتم أفكاره ويظل يُظهر الإيمان خوفاً على حياته. وفي كل الحالات، يفقد القدرة على الاختيار الحر، وهو ما يتعارض ولُب التكليف الديني.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة