جدال "الحاكمية":

تنقيح العقوبات الدينية من مقولات الإسلام السياسي

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

ثمّة معضلة ترافق الخطاب الديني، الأصولي والسلفي، المتشدد، تتصل بالمحاولات المتعسفة والدؤوبة لفرض صدام بين نطاق رؤيته في المجال العام، والقضايا التشريعية القانونية والسياسية، وكذا الرؤى المدنية في ظل المؤسسات التي تمخضت عنها الدولة الحديثة.

هذا الصراع والنزاع المحموم يتحرك بعيداً عن مجال الجدل النظري والفكري، بينما يتحول ضمن وسائط أخرى تعبوية، تشهد على تخومها ولادة عنف مادي أو رمزي؛ وذلك ما يحدث في دعاوى تطبيق الشريعة، والاقتصار على نقطة محدودة تُعنى بالعقوبات البدنية (الحدود)، واعتبار تعطيل “القوانين/التشريعات الإلهية” في مقابل “القوانين الوضعية”، وفق أدبيات التيار الإسلاموي، بتنويعاته المتفاوتة، ومرجعياته المؤدلجة والمسيّسة، هو “حكم الطاغوت”.

تسييس النص

ربما تعزى النقاشات والالتباسات حول القانون والشريعة، أنّ الطرف المؤيد لفكرة “الحاكمية”، يفرض نمطاً شمولياً، بينما يعزل قسراً باقي الرؤى المغايرة، ويمضي في خصومة معها؛ ومن ثم، تتحول مقولاته الثابتة إلى قيم صلبة، تحتمي بوعاء من القداسة تحول دون مراجعتها أو مساءلتها. إذ إنّ هناك اجتهادات عديدة حول مسألة تطبيق الحدود، والتباينات بين الشريعة والتشريع؛ بعيداً عما يتم الترويج له من أن القوانين المدنية تعطل “الحكم بما أنزل الله”، وغيرها.

ففي كتابه: “أصول الشريعة”، يسعى المفكر المصري، محمد سعيد العشماوي، إلى تحديد التباينات بين الشريعة والتشريع، وإنهاء الخلط البراغماتي بينهما لحسابات تشكيل رؤى سلطوية، في إطار التمكين السياسي بالحكم، بالنسبة لتلك التيارات التي تقوم بالتوظيف السياسي للدين. فيقول: “القرآن كتاب محكم وتنزيل جامع، لذلك فقد جاء على ثراء لفظي شديد، فانطوى بناؤه على كثير من الألفاظ ذات الأصول المتباينة، أو ذات المعاني البعيدة، أو ذات الأغراض المتنوعة. ففي ألفاظه ألفاظ كانت قد دخلت العربية من لغات أخرى، وفي ألفاظه ألفاظ أُدخلت إلى العربية -من هذه اللغات- على آياته وبنصوصه… وفي تلك الألفاظ ألفاظ قريبة المأخذ سهلة التناول، وفيها ألفاظ تغوص معانيها إلى أعماق التاريخ، وتضرب فيه إلى مطاوٍ (معانٍ ودلالات) بعيدة، إلى حيث تظهر في لغات أخرى باللفظ نفسه، أو بلفظ مشاكل، وفي المعنى ذاته، أو بمعنى قريب”؛ مؤكداً أن: “تبادل الألفاظ بين اللغات، أو اقتباس لغة لمعاني لغة أخرى، واقع تاريخي، وضرورة لغوية وحضارية، تنشأ من التعامل البشري، والتداخل الإنساني، وتؤدي إلى ثراء اللغات بالألفاظ الجديدة، وتعميقها بالمعاني المقتبسة”.

ويوضح المفكر المصري أنّ الشريعة في التوراة (وعلى وجه الخصوص الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم) وردت نحو مئتي مرة، وكانت تعني “يرشد، يعلم، ينظم، يهدي”. إذ ورد في سفر الخروج: “وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح… تكون شريعة واحدة لمولود الأرض والنزيل النازل”. كما جاء في سفر اللاويين: “وهذه شريعة التقدمة يقدمها بنو هارون أمام الرب قدام المذبح”. ومن ثم، ومن ناحية مبدئية، تبدو كلمة شريعة على هذا النطاق اللغوي لا تعني “قانون” أو “تشريع”، إنما الهداية والطريقة والمنهج، مع الأخذ في الاعتبار أن التوراة حين حددت المعنى المراد به الجزاء والقانون، كانت تستخدم كلمات أخرى منها “الوصايا” و”الأحكام”.

وبالتالي، يصطف المفكر المصري مع مناهج آخرين، مثل المفكر السوري محمد شحرور، وكذا المفكر المغربي محمد عابد الجابري، من ناحية أن الشريعة في جوهرها لا تخرج عن مبادئ العدل والرحمة والاستقامة والحق. أما الجزء الخاص بالعقوبات البدنية، فهي تخضع للتبدل والتغير وفقاً للمستجدات في كل زمن، وبما يتلاءم مع التطور التاريخي، من جهة، و”روح/جوهر” الدين بقيمه ونداءاته لتشكيل منظومة عدل وحق ورحمة واستقامة، من ناحية أخرى.

وسبق للمفكر المصري خليل عبد الكريم، في كتابه: “لتطبيق الشريعة.. لا للحكم”، أن عرج على وطأة الخطابات الأصولية التي تسببت في انحرافات جمّة، بشأن المعاني التي تتوخى تحقيقها الشريعة، وحولتها لمجموعة تنحصر في فرض إكراهات على الإنسان، واستهدافه بالعقوبات والجزاءات، فضلاً عن قراءة النص الديني بوعي مبتسر من دون مراجعة “أسباب النزول”، وهي النقطة التي يتكئ عليها لدحض رؤى التيار الأصولي والسلفي في طرحه لفكرة الحاكمية.

القيم القرآنية

ويقول محمد شحرور في كتابه: “الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية”، إنّ كل ما ورد في الفقه المتوارث لدينا عن وجود آية للرجم في التنزيل الحكيم، تمت إزالتها، يُعد إساءة بحق كتاب الله؛ فالنسخ يكون بين الرسالات وليس في الرسالة الواحدة. ففي القرآن عقوبة الزنا هي مائة جلدة، وإثباتها لـ”حدوث الزنا” يكاد يكون مستحيلاً. ففي حال عدم وجود أربعة شهود للحادثة لا يمكن تطبيق الحد، بل إنّ عقوبة الشاهد الكاذب هي ثمانين جلدة، ولا تقبل منه شهادة بعد ذلك مطلقاً.

وفي كتابه أيضاً، يشير المفكر السوري إلى أنّ مفهوم الحاكمية الإلهية كما طرحته قوى الإسلام السياسي، سواء المعتدلة أم المتطرفة، فيه تجاوز خطير على مفهوم الحاكمية الإلهية الوارد في التنزيل الحكيم، فقد “اعتمد الأول على استعمال الأحاديث السياسية كدليل لتبرير أيّ سلوك سياسي مسلط كالسيف على رقاب الناس، وأعطى القرارات التي اتخذها لتسيير دولته وعلاقاته في السلم والحرب بعداً مقدساً، علماً أن كل هذه القرارات ليست ديناً أصلاً، واتخذها النبي كقائد من مقام النبوة، وليس من مقام الرسالة”. مؤكداً أن مثل تلك القرارات “ليست حجة على أحد، كذلك قرارات الخلفاء الأربعة أو الصحابة، كلها قرارات اتخذت بناءً على اجتهادات إنسانية، لرجال كانوا في مناصب قيادية تتطلب منهم الاجتهاد في أمور ملزمين بها”.

ويرى شحرور أنّ مفهوم الحاكمية كما ورد في الخطاب القرآني له أبعاد ومستوى يتخطى الإطار الضيق والتقليدي المتشدد، المرتبط بالعقوبات البدنية وفكرة تطبيق الحدود، حيث يتشظى لثلاثة محاور، تتمثل في الحاكمية الإلهية، ويقول عنها إنّ “الحرام بيّن، فالمحرمات محصورة ومحددة ومفصلة وأبدية، أي لا اجتهاد فيها، وهي محترمة في أغلب دول العالم”. موضحاً أنّ “الأمور المشتبهات، وهي النواهي، وفيها ترك الله تعالى الباب موارباً لجانب إنساني يجتهد فيها وفق الظروف الزمانية والمكانية. فنلاحظ أن كل دول العالم تضع قوانين للمنهيات (السُّكر – التجسس مثلاً)”. وأخيراً، “الحاكمية الإنسانية، حيث الحلال بيّن، وتنظيم الحلال هو اجتهاد إنساني بحت وليس ديناً أصلاً، وكل التشريعات الإنسانية تدخل ضمنه، وتنطبق عليه تتغير الأحكام بتغير الأزمان”.

ويردف شحرور قائلاً: “الله تعالى حين قال ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، حمّل الرسالة المحمدية بُعداً عالمياً يتماشى مع كل أهل الأرض من الصين إلى موناكو، تطبيقاً لقوله ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الروم: 30]. والفقه الإسلامي للأسف جعل من الإسلام ديناً متجاوزاً تاريخياً، ووفق قراءة التنزيل الحكيم بطرح معاصر تقبله العقول، نعيد هذا الفقه لمكانه ونجرد الفقهاء من السلطة التي اكتسبوها، فلا يحق لهم التدخل في التشريع، ومكان الفقه هو الإفتاء في الشعائر فقط لا غير”.

ختاماً، فإن بناء صيغة ناجزة من الناحيتين النظرية والعلمية لـ”عصرنة الحاكمية”، أو وضعها في داخل صيغة تتسع للقيم المعاصرة، ولا تبقى في حيز القديم بحدوده وأفكاره وإشكالياته؛ يجعل منها، من المنطلق التحديثي هذا، وسيلة لبناء قيم التسامح والسلام، لا سيما عندما تتبدل منظومة الطاعة في تراتبيتها من مستوى الإكراه والعنف إلى الطواعية التامة، وتمتزج فيها قيم الإيمان بحاكمية وعدالة الله بالشمول الإنساني. وتبعاً لذلك، يحاول شحرور، في كتابه “قراءة معاصرة للحاكمية”، أن يستعيد عالمية الإسلام وكونية القيم القرآنية، بوصفها رسالة “رحمانية” تشمل البشر كافة من دون فواصل متشددة تصنع التنابذ أو العنف. 

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة