تفكيك كِشْك:

ظاهرة الكاسيت وإسهام الشيخ في نشر التطرُّف

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

لَمَع نجم الشيخ عبد الحميد كشك (1933-1996) في أوائل السبعينات، من القرن الماضي، بعد عشر سنوات تقريباً من تولّيه الإمامة والخطابة في مسجد “عين الحياة”، بمنطقة حدائق القبة في القاهرة، وظل إماماً وخطيباً للمسجد لما يقرُب من عشرين عاماً، أسس خلالها طريقة الخطابة الدينية “الشعبوية”، التي استخدمها شيوخ وخطباء كثُر في نشر أفكارهم المتطرفة والمُغالية في العداء ضد كل مَن هو مخالف لأفكارهم.

عوامل الانتشار

تعددت عوامل انتشار وذيوع شهرة الشيخ كشك، اعتماداً على “الشعبوية المقصودة”، فضلاً عن “ظاهرة الكاسيت” التي انتشرت في السبعينات بشكل كبير.

أولاً، الشعبوية المقصودة.. التي تبدّت جلياً في اختيار مواضيع خطبة الجمعة والدروس الدينية، والتي كانت تنحصر تقريباً في:

ـ التهكّم على حياة الناس: استخدم الشيخ كشك أسلوب الاستخفاف والهجوم على حياة الناس اليومية، من عادات وتقاليد وسلوكيات معتادة ومتوارثة، تمثّل ثقافة الناس الدينية والدنيوية وإزاحتها إلى خندق العصيان الديني والخروج عن الملّة أحياناً؛ وذلك في تدخُّل واضح في أفراحهم وأتراحهم وكل حركة وهمسة يمارسونها في حياتهم اليومية، بحجة بِدعيَّتها وخروجها عن صحيح السلوك الإسلامي للصحابة والتابعين في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ولَم يترك الشيخ كشك فرصة واحدة في خطبه الدينية إلا وهاجم السلوك اليومي للمصريين، مستخدماً طريقة “تَبْديع” حياتهم اليومية، وكأنه يرغب في تكسيرها بمطرقة إقصائية وتكفيرية والتسخيف من بهجتهم البسيطة.

ـ الهجوم على الفنانين: من أهم عوامل شهرة الشيخ كشك، هجومه الساخر على الفنانين والفنانات وأعمالهم الفنية، التي اعتبرها “مخالفة للشرع ومحرضة على الفساد الديني والأخلاقي”؛ بل ويُعد هجومه وسخريته من أم كلثوم وأغانيها مثالاً واضحاً على ذلك، وكأنه يبحث عمّا يسعد الناس في حياتهم ليسخّفه لهم ويدنّيه إلى درجة الفساد الأخلاقي، بل ويتهكّم على أعمارهم وكلمات أغانيهم ويدعو عليهم بالموت، كما فعل مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وآخرين.

ـ المرويات الأسطورية: بَرَع الشيخ كشك في إلقاء الحكايات الشعبية الأسطورية، من كتب المرويات القديمة، وتحوير محتواها ليعبّر عن مظلومية تاريخية زائفة لشيوخ التطرّف في مواجهة الحكّام، مستخدماً نفس التعبيرات اللغوية للحركات التكفيرية في تسميته الحكام بالطواغيت كمثال؛ والانتقال من تلك الحكايات إلى حكايات الاعتقال والتعذيب، الذي يختص طبعاً بالمدافعين عن الشرع الشريف على حد قوله، وتمثيل الدولة والعوام على حد سواء بأنهم في خندق معاداة الدين الإسلامي ومكارم الأخلاق والعدل.

ـ نقد المرحلة الناصرية: لم يترك الشيخ كشك فرصة في خطبه ودروسه الدينية إلا وهاجم فيها جمال عبد الناصر وكل ما تمثله مرحلته بالنسبة له، ورواية حكايات اعتقاله وتعذيبه في عصره؛ ثم الانتقال من ذلك إلى انتشار تعليم المرأة وسفورها ونزولها إلى سوق العمل، والنهضة الفنية في المسرح والسينما، ومطبوعات الأدب، معرّضاً بكل ذلك، وكأن هدف الدولة والناس هو معاداة الإسلام، الذي يمثله الشيخ كشك وأتباعه.

ثانياً، انتشار الكاسيت.. مع الظاهرة الشعبوية لأغاني أحمد عدوية، كان انتشار مُسجِّل الكاسيت وسيلة سهلة للتسجيل والتوثيق الصوتي، وعاملاً حاسماً في شهرة الشيخ عبد الحميد كشك.

فمع شعبويته المتمثّلة في أسلوب خطابته واختيار مواضيع خطبه، بدأ أتباعه يستخدمون الكاسيت في تسجيل خطبه في أيام الجمعة، وتسجيل دروسه الدينية داخل المسجد، باعتبارها عرضاً مسرحياً تمثيلياً لرجل واحد، يقابل أهواءهم وأحلامهم وغضبهم بخطبه اللاذعة، ممرّراً خلالها كل ما يريد تمريره من أفكار إقصائية متطرفة، وتكفيرية أحياناً، بعد أن وافَق عصر الكاسيت شهوة المنبر التي جعلت الشيخ يترك التدريس في جامعة الأزهر معتلياً المنابر ومستجدياً إعجاب الجماهير التي جلَبت شهرته.

أفكار حاكمة:

على الرغم من الشهرة وسرعة الانتشار لخطب الشيخ كشك، وتسامر العوام والمثقفين حول تسجيلاته الساخرة، وحُسن إلقائه الخطب، واعتباره ظاهرة فنية تشخيصية مسرحية أحياناً، في جلسات الفنانين أنفسهم؛ فإن خطبه ودروسه تشتمل على كثير من الأفكار المتطرفة والإقصائية، والتكفيرية أحياناً، بصورة لا يمكن تجاهلها أو صرف النظر عنها:

ـ تمجيد سيّد قطب: امتدح الشيخ كشك بوضوح أفكار سيد قطب الإقصائية والتكفيرية، للحكام والعوام، وتقسيم العالم لفئتي كفر وإيمان، وثمَّن إعدام سيد قطب لكونه “شهيداً يمثل الإسلام الحق أمام دولة كفر بَوَاح”. واعتمد الشيخ كشك على أفكار سيد قطب في ردّ العالم إلى ثنائية الخير والشر، والكفر والإيمان، دون اعتبار لأي ملابسات تاريخية أو تحليل رصين لأفكار سيد قطب على أي مستوى.

ـ الانتقام المعنوي: اصطنع الشيخ كشك انتقاماً معنوياً زائفاً للبسطاء والعوام، في مواجهة السُّلطة والطبقات الغنية والمشاهير من الفنانين والأدباء، مما لاقى بعض الهوى من جماهير البسطاء؛ فمن لم يستطع تحقيق أحلامه يجد السلوى والعزاء في سخرية كشك وتشنيعاته، وأفكاره الراديكالية المتطرفة، فالجماهير في أوقات الأزمات غالباً ما تتوجه عاطفياً وفكرياً نحو الأفكار الراديكالية في عمومها.

ـ نشر التطرّف: نستطيع أن نرصد عديداً من الأفكار المتطرفة، من خلال الاستماع إلى خطب الشيخ كشك المسجلة على شرائط الكاسيت، والمستعادة على الإنترنت كطُرفة أحياناً، وكفكرة وجيهة عند المتطرفين أحياناً أخرى، ككراهية المرأة ونقد نزولها إلى سوق العمل وملابسها وحياتها اليومية ودورها المجتمعي، وتقسيم العالم إلى ثنائية الخير والشر والكفر والإيمان، والأفكار التكفيرية الصريحة، والسخرية من الفن والأدب وأهميتهما في العموم.

ـ الشعبوية الضحلة: ترك الشيخ كشك الاهتمام بتأصيل الجانب العلمي والشرعي، لصالح شعبوية خطابية ساخرة تستجدي هوى الجماهير، شعبوية مليئة بضعف المرويات والأحاديث، تمجّد الأسطورة وتفخّمها وتلوي ذراع الحقيقة، لصالح المظلومية الزائفة لمشايخ التطرف في مواجهة عالم “كافر” إجمالاً، و”يحق قتاله شرعاً” في ما يقدمونه من فتاوى وأحكام وخطب دينية.

وختاماً، فإن الموضة الاستعادية لخطب الشيخ عبد الحميد كشك، المنتشرة على الإنترنت، قد تكون فرصة سانحة لإعادة تفكيك أفكار الشيخ وتحليلها، ونفي تأصيلها الشرعي وتوضيح مدى الخطورة من انتشارها، لأنها على بساطتها اللغوية العامية، وخفّتها العلمية الشرعية، تُعيد نشر الأفكار الإقصائية المتطرفة، والمبدّعة لحياة الناس، والتكفيرية في كثير من الأحيان.

تلك الاستعادة ليست مصادفة بأي حال من الأحوال، فمع عودة الجماعات التكفيرية للعمل على الأرض ومحاولتهم في نشر أفكارهم، وممارسة التطرف بالدعوة والسلاح؛ فإن استخدام أفكار الشيخ كشك وطريقته، قد تعد من الوسائل الدعائية في نشر تلك الأفكار الخطيرة بين الشباب والمراهقين، الذين يرغبون في إيجاد طريقهم الحق في الحياة، حيث إن طريقة الشيخ كشك الشعبوية الخطابية الواثقة، التي تدّعي معرفة طريق الحق والإسلام الصحيح لها وحدها، قد تجد هوى عند الجماهير مرة أخرى.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة