التنشئة الإسلامية والمفاهيم الاجتماعية الجديدة
اعتمَد المسلمون في العصر الأول للإسلام، وما تلاه، في تربية أبنائهم، على فكرة تأديبهم بآداب الشرع، وتفقيههم في أمور الدين، من صلاة وصيام وزكاة وطهارة؛ ولم تكن أسئلة عصرهم من التنوع والتباين بما تمثل معضلة أخلاقية، حتى أتَت عصور بانَت فيها المسافة بين ما يقف عليه المسلمون في تأسيس أبنائهم وبناتهم، وبين ما يقابلهم في اللحظة التاريخية التي يعيشونها، من تساؤلات مادية وروحية.
قطيعة تاريخية
كانت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، عام 1798م، هي أول مواجهة اجتماعية مباشرة بين الغرب وبين الشرق المسلم، منذ حروب “الفرنجة”، التي أُطلق عليها “الحروب الصليبية”. وبحسب المفكر والكاتب المصري الفرنسي روبير سوليه، فإن الحملة الفرنسية على مصر قد “مثَّلت قنبلة موقوتة؛ لأنها وإن لم تجلب آنذاك كثيراً للمصريين، فإنها سبَّبت نوعاً من القطيعة مع ما سبقها في تاريخ هذا البلد الذي كان مغيباً منذ قرون”.
لم يكن تأثير الحملة الفرنسية في مصر عسكرياً أو عِلمياً فقط، بل كان تأثير تلك الحملة اجتماعياً وثقافياً قبل كل شيء، في رؤية الشرق المسلم للآخر الغربي، تلك الرؤية التي كانت تنحصر في رؤية طموحه الاستعماري وعداوته للإسلام “من وجهة نظر المسلم الشرقي”، ليبدأ هذا المسلم، الشرقي، بعد ذلك في مواجهة أسئلة جديدة، مثل: “مَن نحن؟”، و”من ذلك الآخر القادم من الناحية المقابلة من البحر؟”، و”كيف نربّي أبناءنا طبقاً لمعطيات العالَم الجديد؟”.
التربية التقليدية
ارتبطت التربية الإسلامية التقليدية في العصور الإسلامية الأولى، وحتى الآن، بكثير من مرويات المحدثين والإخباريين والرواة، بطريقة مغلقة على نفسها، دون النظر إلى العالَم الخارجي، وكأنما الأمة الإسلامية موجودة وحدها دون غيرها في هذا العالم؛ دون ذِكْر معطيات جديدة لعصرهم، ودون تغيير يُذكَر في منهجهم وطريقتهم، التي اعتمدَت الأسلوب “الإيماني الظاهري” في التربية دون غيره، من تعليم التوحيد والطهارة وتلقين الصلاة والاستئذان في الدخول على الآباء، والأكل باليد اليمنى، كما جاء في حديث منسوب للنبي: “يا غلام، سَمّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُل مما يليك”، والأكل في جماعة، وبعض الآداب الأخرى.
منهج الغزالي
يُعد فصل “بيان رياضة الصبيان”، من كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي، من أشهر الأدبيات الإسلامية المكتوبة في تربية الأطفال، وأكثرها استخداماً بوصفه مرجعية للمنهج الإسلامي في التربية.
ففي “إحياء علوم الدين”، يقول أبو حامد الغزالي: “اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدِّب، وإن عُوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه”؛ ومؤكداً أنه: “مهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا، فأنْ يصونه عن نار الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء، ولا يعوّده التنعُّم، ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد؛ بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحيي ويترك بعض الأفعال، فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه”. ولأن هذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب، لذا: “فالصبي المستحيي لا ينبغي أن يُهمَل، بل يُستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه. وأول ما يغلب عليه من الصفات شَرَه الطعام، فينبغي أن يؤدَّب فيه، مثل ألا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول عليه باسم الله عند أخذه، وأن يأكل مما يليه، وألا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وألا يحدق في النظر إليه ولا إلى مَن يأكل، وألا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وألا يوالي بين اللقَم، ولا يلطخ يده ولا ثوبه، وأن يُعوَّد الخبزَ القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتماً، وأن تُقبَّح عنده كثرةُ الأكل، بأن يشبه كلُّ مَن يُكثر الأكل بالبهائم، وبأن يُذمَّ بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل، ويُمدح عنده الصبي المتأدب قليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام، وقلة المبالاة به، والقناعة”.
اقتصرت وصية أبي حامد الغزالي في تربية الأطفال، إذاً، على التأديب والتهذيب واستعمال امرأة صالحة متدينة في حضانة الطفل وإرضاعه، وعلى آداب الطعام وسرعة الأكل والمضغ، وقدر الطعام الذي يستهلكه الطفل.
وفي نفس الفصل، يقول أبو حامد الغزالي: “وينبغي أن يُعوَّد ألا يبصق في مجلسه ولا يتمخط ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلاً على رِجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده؛ فإن ذلك دليل الكسل، ويُعلَّم كيفية الجلوس، ويُمنع كثرة الكلام، ويبيَّن له أن ذلك يدل على الوقاحة، وأنه فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين رأساً/منع الحلف -صادقاً كان أو كاذباً- حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويُعوَّد حسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان، ويجلس بين يديه، ويُمنع من لغو الكلام وفُحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء”.
لا تخرج توصيات أبي حامد الغزالي على كونها من الآداب العامة في مجلس الكبار، دون الالتفات إلى ما يمكن أن يواجه الأطفال في كبرهم من أسئلة لها علاقة بالواقع الاجتماعي المعاش، مما يوضّح مدى الانغلاق على الذات في المجتمعات الإسلامية في وقته.
وقد وَرَد في المرويّات في مسند أحمد وسُنن البيهقي والدارقطني والترمذي، وأخَذ به فقهاء ومفسرون ورواة كالإمام النووي، عن النبي الأكرم: “علِّموا أولادَكُمُ الصلاةَ إذا بلَغُوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشْراً، وفرِّقُوا بينهم في المضاجِعِ”.
أي: “إذا بَلَغَ الطِّفْلُ عَشْرَ سنوات أُلْزِمَ الصَّلاةِ الَّتي ظَلَّ ثلاثَ سنَواتٍ يتَدرَّبُ عليها، فإذا قَصَّر في الصَّلاةِ بَعْدَ هذه السِّنِّ ضُرِبَ وعُوقِبَ حتَّى يعتادَ أداءها، فإذا ما دَخَل وقتُ التَّكليفِ يكون قد اعْتادها”.
ويقول ابن باز إنه “يجب تأديب الأطفال، ما هو يجوز، يجب ولو كانوا أيتاماً، حتى اليتيم يُؤَدَّب إذا أخطأ، يُؤَدَّب مثلما قال النبي: مُروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، فإذا تخلَّف الولد أو البنت عن الصلاة بعد العشر يُضرب، وإذا كان سبَّاباً شتَّاماً يُضرب ويُؤَدَّب، إذا كان ما نفع فيه الكلام، وإذا كان يُخالف أهله في أشياء، يضرُّ أهله، لا بأس أن يُؤَدِّبوه حتى يستقيم، سواء ذكراً أو أنثى، يتيماً أو غير يتيمٍ”.
وما ينبغي ملاحظته، أن الكثير من الفقهاء يضعون هذا الحديث موضع “الحديث الضعيف”، من حيث ثبوت الإسناد، أو لأن رواة هذا الحديث هم بين “متروك لا يُحتج به وقد خالف في هذا الحديث سنداً ومتناً”، كما قال ابن حجر العسقلاني، أو “لم يصِح حديثه” كما قال البخاري، أو “اختلط في آخر عمره، وكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم”، كما يسرد ابن حيان.
إلا أن الأهم من ذلك كله، أنه حديث فيه حثٌّ “غير محمود” على إساءة استخدام سُلطة الوالدَيْن، وحض على العنف، لا يمكن أن يقترنا بروحانية الصلاة، بينما -حتى في المرويّات- لم يُذكَر أن النبي الأكرم قد ضرب بيده شيئاً، ولا امرأة ولا خادماً.
وختاماً، فإن المسلمين، في العصر الحالي، يعيشون في عالَمٍ تكثُر فيه الأسئلة الأخلاقية والمعضلات الاجتماعية التي تزداد كل يوم؛ ولا يمكن بأي حال أن تكون إجابة تلك التساؤلات في ما يخص تربية الأطفال، هي نفس الإجابة القديمة المستندة إلى مرويات المحدثين والإخباريين والرواة.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.