برهان غليون:

الحداثة العربية ورفض استراتيجية التغريب

مركز حوار الثقافات

14-09-2024

نقد محاولات الحداثة العربية وتفكيكها وتحليلها، لمعرفة أسباب عجزها عن الوصول إلى الحداثة والنهضة العربية، محور رئيسي في المشروع الحداثي للمفكر الفرنسي، سوري الأصل، برهان غليون (1945م)، الحاصل على الدكتوراة من السوربون بفرنسا، برسالته عن فكرة الحداثة في الفكر العربي الحديث.

مشروع الحداثة، الذي يسعى إليه "غليون"، ينطلق من أرضية ثابتة عنده، وهي أن يعبّر المشروع وينطلق من الاحتياجات الفعلية والضرورات التي يحتاج إليها العالم العربي حالياً، ولا ضير عنده من استخدام المفاهيم العقلانية للحضارة الغربية وأدواتها المعرفية والعلمية، على ألا يكون ذلك الاستخدام بهدف فرض السيطرة والهيمنة الغربية على المشروع الحداثي العربي، وألا يكون المشروع الحداثي استنساخاً للمدنية الغربية.

وقد عبَّر "غليون" عن مشروعه النقدي والحداثي في عديد من مؤلفاته، مثل: "عطب الذات"، و"ثقافة العولمة وعولمة الثقافة"، و"العرب وعالم ما بعد 11 أيلول"، و"النظام السياسي في الإسلام"، و"اغتيال العقل"، و"مجتمع النخبة".. وغيرها، من الدراسات والمقالات المتعددة.

التغريب والتجديد

1-المفاهيم الإجرائية للحداثة: في حديثه عن مشروعه للحداثة العربية، قدم "غليون" ثلاثة مفاهيم إجرائية ضمن مفهوم الحداثة: 

- الحضارة: يقصد به المكتسب الإنساني الشامل الذي يمكن تعميمه على كل الثقافات، وهي تتجاوز المدنية، وتتسم بالعالمية.

- المدنية: يعبِّر به عن هُوية الجماعة الثقافية، التي تشتمل على مجمل المبادئ العقلية والمادية وآليات التواصل للجماعة الواحدة، وهي حاصل تفاعل المكتسبات الحضارية العالمية والثقافة المحلية.

- الثقافة: المفهوم الذي يعنيه "غليون" هو الثقافة المحلية السائدة في مجتمع أو مجتمعات ما.

يهدف "غليون" بذلك التقسيم إلى توضيح المفاهيم، ومجالاتها التي يجب العمل عليها في مشروع الحداثة العربية.

2-المراجعة الذاتية للمدنية: يفرق "غليون" في المشروعات الحداثية، بين ما أطلق عليه "استراتيجية التغريب" و"التجديد الحقيقي"؛ فالمدنية إذ جاءت نسخة مماثلة للثقافة الغربية، أصبحت "تغريباً" لا "تجديداً". ولتحقيق الحداثة التجديدية، يدعو إلى مراجعة ذاتية للمدنية العربية بهدف إعادة تنظيم مفاهيم وقيم تتعلق بأهداف ووظائف المدنية الجديدة، النابعة من حاجاتها وضروراتها، حسب قوله.

أزمات الحداثة

يرصد "غليون" أزمة رئيسية في مشروع الحداثة العربية، تتمثل في سيطرة الحضارة الغربية على الحداثة العربية، سواء بشكل متعمد أو غير متعمد؛ إذ يَرجع سيطرة الحضارة الغربية "الواعية أو غير الواعية"، حسب قوله، إلى المدنيَّة الغربية، التي هي مصدر وموقع الحضارة، حيث ساد اعتقاد بأن النزوع إلى الحداثة هو مطابقة المدنية الغربية، وتحويل أي مجتمع مدني إلى نسخة مماثلة للثقافة الغربية، وفق قوله.

وتفاوُت مفهوم العقلانية بين الحضارة الغربية والعالم العربي، من أسباب انهيار المشروع الحداثي عند "غليون"؛ إذ ترى العقلانية الأوروبية مفهوم العقل بشكل يتسع لجميع مجالات الفاعلية البشرية ويستوعب الأخلاق والسياسة والفن، وتحولت القيم التي نادت بها العقلانية الغربية، مثل المساواة والمواطنة والتقدم التقني، إلى قيم إنسانية واجتماعية عامة، حسب قوله.

يأتي هذا، في حين أن العقلانية العربية، حسب ما يرى "غليون"، تعاملت مع مفهوم العقل باعتباره أيديولوجيا "علموية"، حسب قوله، وقلصت مفهوم العقل إلى مجال العلم التقني والمعلومات دون باقي أوجه الحياة الإنسانية الأخرى، ولم تميز بين مجال العلم الذي موضوعه تقرير الحقائق وبين الأيديولوجيا التي تهدف إلى تبديل الوقائع أو تكوين شرعية جديدة.

ويحاول "غليون" أن يوائم بين العلم وبين الأيديولوجيا؛ إذ هما أمران هامان للمجتمع العربي، وفقاً له، فيوضح أن العلم يكشف القوانين والقواعد التي تتحكم في الظواهر، بينما الأيديولوجيا لديها الإمكانية لتحديد كيفية الاستفادة من العلوم والمعارف الصحيحة، لتوظيفها من أجل تحقيق أهداف اجتماعية وحضارية، بما فيها الحداثة.

الحداثة والعلمانية 

ويدعو "غليون" إلى العلمانية بوصفها وسيلة هامة لتحقيق الحداثة العربية، ويرى أن العقلانية العربية استخدمت العلمانية بمعنيَيْن:

1- المعنى الفلسفي للعلمانية: ويتعلق بتنظيم العَلاقة بين مصادر العقل العلمية والدينية والروحية والمادية، ويتجسد في نمو الوعي الخاص بالحياة والعالم؛ والعلمانية بهذا المعنى هي ثمرة طبيعية عفوية لتطور الحضارة، ولمستوى استخدام العقل، وترسيخ المعرفة والمشاعر الدنيوية، وتمثل تطوراً طبيعياً للمجتمعات، ويمكن للعقلية العربية، وفق هذا المعنى للعلمانية، الوصول إلى الحداثة العربية، حسب قوله. 

2- المعنى التنظيمي للعلمانية: وهو استخدام العلمانية في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ولا يقصد بهذا المعنى للعلمانية معاداة الدولة للتدين ومظاهره؛ بل على العكس، يرى أن على الدولة ضمان حرية التدين والعبادة والشعائر، ويقصد بهذا المعنى تفعيل مبادئ عامة في الدولة مثل المواطنة والإنسانية والمساواة والحرية.

3- العلمانية ومشروع الحداثة: يرى "غليون" أن العقلانية العربية حوَّلت العقلانية الغربية وأهم تجسيداتها الفكرية، وهي العلمانية، إلى "أيديولوجيا لا عقلانية لاهوتية"، وأصبحت "خرافة عقلية من نوع جديد"، وقسمت القائمين على مشروع الحداثة العربي إلى فئتين متقابلتين:

الأولى، تهدف إلى تطبيق الحداثة والمدنية الغربية بشكل متماثل مع الحضارة الغربية عبر الاستنساخ الكامل وتطبيق النموذج، حسب قوله. أما الثانية، فتتجاهل –بتعمُد- معطيات الحضارة الغربية العلمية والفكرية؛ وإذا أباحت استخدامها فإن ذلك بهدف خدمة التراث وإعادة إحيائه وإحكام سيطرته على الواقع العربي المعاصر، فهي فئة رجعية تهدف إلى إعادة الماضي، وفق قوله. 

إن المشروع الحداثي عند "غليون" هو مشروع تجديدي، مغاير للتراث العربي، يدعو فيه إلى استخدام العقلانية الغربية بأدواتها ومفاهيمها المعرفية والعلمية -ومنها العلمانية- دون استنساخ للمدنية الغربية، وعبر مراعاة الظروف الاجتماعية والاحتياجات الخاصة بالعالم العربي، لتأسيس بناء حداثي يتناسب مع الواقع الحالي للمجتمعات العربية، حسب قوله.

الإسلام والحداثة

يفرق "غليون" بين الإسلام بوصفه ديناً وجماعة مؤمنة به، وبين الحركات الإسلاموية التي تهدف إلى ربط الدين الإسلامي بالسياسة؛ إذ يرى أن الفريقين متباينان ومتباعدان:

أولاً، الإسلام بوصفه ديناً: هو فئة لا تمثل عائقاً أمام مشروعات الحداثة والنهضة العربية بأي شكل من الأشكال، كما أن أفراد هذه الفئة يتسمون بصفات حضارية مثل السماحة وقبول الآخر، حسب قوله.

ثانياً، الحركات الإسلاموية: التي توظف الإسلام سياسياً، وتمثل عائقاً كبيراً أمام مشروعات الحداثة والنهضة، وتتسبب في تراجع فكري وحضاري، وتوظيف الإسلام سياسياً وحركياً، بشكل يؤدي إلى ظهور التطرف والإرهاب، الذي يقف حائلاً بين المجتمع العربي والحداثة، كما أن أفراد هذه الفئة يتسمون بأفكار تعسفية متشددة لا تسامحية ضد الآخر أو المختلف، قد تصل إلى اعتبار غير المنتمي لهم غير مسلم، حسب قوله.

ويشدد "غليون" على أن التيارات الإسلاموية وحركاتها تمثل عائقاً كبيراً ضد مشروعات الحداثة العربية، ومن الممكن أن يتجاوز تأثير هذه التيارات إعاقة مشروع الحداثة، إلى إعادة المجتمعات العربية إلى فترة ما قبل مشروعات الحداثة، حسب قوله.

وختاماً، الحداثة مشروع فكري له جوانب تطبيقية عند "غليون"، الذي يدعو إلى أهمية التركيز على إعادة الوعي بأبعاد الأزمة الحضارية العربية، ولأجل إعادة الوعي يستخدم منهجاً نقدياً حضارياً للحالة العربية والمشروعات الحداثية التي يطالب بأن تتحول إلى مشروع حضاري شامل لجميع جوانب الحياة الإنسانية، بأبعادها الثقافية والعقلية والفكرية والعلمية والاجتماعية، وفق قوله.

ويطالب "غليون" الحداثيين والمثقفين العرب، لتفعيل الحداثة وتطبيقها، بتحويل القيم العقلية إلى مبادئ عامة ومفاهيم اجتماعية، مع إعادة النظر في المفاهيم والمسلمات التي تُستخدم في العالم العربي، بما في ذلك العلمانية التي تستخدم بشكل خاطئ، وفق قوله، على أن تحدث بين العلوم الغربية والأيديولوجية العربية، عبر تحديد الأيديولوجيات العربية وتبني تلك التي تكون سبباً في النهضة والحداثة العربية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة