هل غلبت التفسيرات الذكورية على العدالة القرآنية؟
يقود الاشتباك مع موضوع الإرث وتوزيع التركات في الإسلام إلى جملة من الإشكاليات، تدفع إليها عدة عوامل؛ من أبرزها غلبة المفاهيم الذكورية القبلية على العقل الفقهي الكلاسيكي، وشيوع المغالطات المنطقية في تبرير ذلك، بالإضافة إلى إغفال قاعدة “حركة النص في التاريخ”، ومبدأ “التدرج في التشريع”.
لقد تعاطى الفقه التقليدي مع المواريث، وتجاهل تماماً مسألة الوصية، التي اعتبرها هامشية؛ هذا فضلاً عن أنّ المنظومة الفقهية قامت على قاعدة أنّه “لا وصية لوارث”، على الرغم من أنّ النص القرآني قدّم الوصية على الإرث، دون أن يشير إلى حرمان الورثة من الحق في الوصية.
تقديم الوصية
ولعل ذلك، نفسه، هو ما دفع الدكتور محمد شحرور، في كتابه: “الكتاب والقرآن”، إلى التأكيد على أنّ الوصية مقدمة على الإرث، وذلك وفق الآيات الواردة في سورة البقرة؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ٭ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ٭ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 180-182].
ويربط شحرور بين آيات الوصية في سورة البقرة، وقوله سبحانه في سورة النساء: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ…﴾ [النساء: 11]؛ لافتاً إلى أنّ الخطاب القرآني هنا يحمل صيغة التوصية، لا الفرض، ذلك أنّ ما يكتبه الله أو يفرضه، يختلف وجوباً عما يوصي به. وعليه، فإنّ كل التكاليف التي وردت تحت باب “كتب عليكم” أو “فرض الله”، على الإنسان أن يقوم بها ولو كان كارهاً لها، ولا علاقة لها بالوصية.
ويمضي شحرور مفسراً قوله تعالى: “لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ”، باعتبار ذلك الحد الذي لا يجوز أن نتجاوزه في تنفيذنا لهذه الوصية ونحن أحياء؛ وهذا يعني أنّ الإنسان ينبغي أن يميز في الإنفاق وهو على قيد الحياة، على أولاده ضمن حدود “لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ”، أما بعد الوفاة وفي حالة ﴿مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ…﴾ [النساء: 7]، فيتم حساب التركة وتقسيمها بين الذكور والإناث بالتساوي.
ولعل زيادة نصيب الذكر عن الأنثى من الإنفاق في حياة الرجل، تتفق ومفهوم حرص الخطاب القرآني على عدم “حرق المراحل” دفعة واحدة، قبل تكييف الواقع بظهور معطيات جديدة، كما أنّه في تلك الفترة لم يكن يحمل ظلماً للمرأة، في مجتمع ذكوري، تقوم العلاقات بين الذكر والأنثى فيه على مبدأ القوامة.
التراث الفقهي
ووفقاً لطرح شحرور، فإنّ الوصية هي وسيلة عبور الثروة إلى مستحقيها، وفقاً لرغبة صاحب المال ورؤيته، التي يجب أن تقوم على العدل؛ حيث يبقى الإنسان قيماً على ماله طيلة حياته، “وله الحق الكامل في طريقة نقل ثروته”.
ويرى شحرور أنّ الوصية ﻻ يوجد فيها تمييز بين الذكر والأنثى، وهي “اﻷساس في نقل الثروة بين اﻷجيال، أمّا الإرث فهو اﻻحتياط؛ في حال عدم ذكر الإنسان لوصيته وموته فجأة”.
ويمكن القول إنّ هناك عدة مراحل تمر بها التركة، قبل أن تستوفى جميع الأنصبة؛ أولها، مرحلة الوفاء بالديون المستحقة على صاحت التركة، وما تبقى من المال يمر عبر المرحلة الثانية وهي الوصية، وعند استيفائها نصل إلى مرحلة الإرث إن تبقى شيء من التركة، فإذا استغرقت الوصية كامل الثروة، فلا محل هنا للانتقال إلى الإرث.
ويرى سامر إٍسلامبولي، أنّ “التراث الفقهي خالف القرآن فيما يتعلق بتقديم الإرث على الوصية، تحت ضغط جملة من الدوافع الاجتماعية والسياسية”، لافتاً إلى أنّ “النص القرآني كان شديد الوضوح في هذا الجانب، وفقاً للآية “180” من سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، ولكن الفقهاء قاموا بإبعاد النص لصالح رواية: لا وصية لوارث”.
ولعل الإشكالية الرئيسية هنا، هي الكيفية التي جرى بها نسخ نص قرآني قطعي الدلالة والثبوت، لصالح رواية ظنية؛ فالقرآن لا يُنسخ، إن جاز النسخ، إلّا بقرآن مثله. كما أنّ هناك مغالطة منطقية لا يمكن بحال تفاديها، حيث تقول الآية “180” من سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾؛ حيث إنّ حضور الوالدين والأقربين ضمن مستحقي الوصية، وهم من ورثة الميت، ينفي تماماً القول بعدم أحقية الوارث في الوصية. ويمكن القول إنّ الوصية لوارث واجبة بنص القرآن.
مغالطة رجل القش؟
يرى الفقه التقليدي في مسألة العمل بنص “لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ”، بالقول إنّ المرأة تكون مسؤولة من أخيها الذي يرث ضعفها إن لم تكن متزوجة، وإن تزوجت فهي تحت قوامة زوجها، الذي يرث بالتبعية ضعف أخته وهكذا؛ وهو تبرير ما زال البعض يقول به، على الرغم من عدم وجود نص ملزم للأخ بالإنفاق على أخته، وكذا المتغيرات التاريخية التي جرت على مفهوم القوامة، بدخول المرأة ميادين العمل كافة، بل وإدارتها مؤسسات كاملة، وارتقائها لأعلى المناصب، للدرجة التي ربما تفوق فيها زوجها في الدخل والمكانة.
أمّا عن ترديد البعض لحالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، فهي أشبه بمغالطة رجل القش، فالفخر بأنّ المرأة ترث أكثر من الرجل في حالات كثيرة، يحيل بالضرورة إلى الاشتباك مع تلك الحالات، التي تطرق إليها الدكتور صلاح الدين سلطان في كتابه: “ميراث المرأة وقضية المساواة”، ورصد فيه أكثر من ثلاثين حالة، تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث الرجال، وهي في معظمها مقاربات مع أشخاص ذكور من ذوي القرابة البعيدة، كشقيق الزوج وأبنائه؛ ذلك أنّ المنظومة الفقهية السائدة، تجعل تركة المتوفى، نهباً لمن يظهر فجأة من الأشقاء أو أبنائهم، دون استحقاق أخلاقي أو اجتماعي حقيقي؛ عقاباً على عدم إنجابه للذكور (!).
من هذه الحالات، على سبيل المثال: الحالة التي خلفت فيها امرأة “زوج وأب وأم وبنتان”، فإن الثلثين للبنتين يمكنهما من أن يأخذا أكثر من الابنين، إذا وجدا مكان البنتين؛ وكذا الحالة التي تخلف فيها امرأة “زوج وأم وأخت شقيقة”، فإنّ الأخت الشقيقة ترث أكثر من الأخ غير الشقيق.
بل، وتنتفي العدالة في أحيان كثيرة بين الأخوة؛ فمثلاً إذا وجدت الأختان، الشقيقة والأخت لأب معاً، فلا تعطى الأختان معاً الثلثين مناصفة، وإنّما تعطى الشقيقة النصف، ثم تعطى الأخت لأب ما بقي من الثلثين وهو السدس. وكذا، فإنّ الأخت الشقيقة ترث أخاها بشرطين: أولهما، عدم وجود فرع وارث ذكر (ابن، أو ابن ابن…)؛ وثانيهما، عدم وجود الأب.
إشكالية العول
العول في فقه المواريث، يعني زيادة فروض المسألة على أصلها، أي الزيادة في عدد السهام والنقص في أنصبة الورثة. ويختص العول بمسائل الإرث التي يكون فيها تزاحم بين أصحاب الفروض دون أصحاب التعصيب، بحيث تستغرق كل التركة، ويبقى بعض أصحاب الفروض دون نصيب؛ فعند ذلك تتم الزيادة إلى أصل المسألة، ويدخل النقص إلى كل واحد من الورثة.
ولم يأت ذكر للعول في عهد النبي ولا أبي بكر الصديق، وهو مفهوم تم ابتكاره، لزيادة حجم التركة بشكل وهمي؛ لتغطية أنصبة الورثة، بداعي عجز التركة عن الوفاء بكامل أنصبة الورثة. ويرى سامر إسلامبولي أنّ “العول يتناقض مع أحكام النص القرآني، بل ويفتح الباب أمام القول بوجود أخطاء حسابية في القرآن. مثال: إذا ترك أحدهم مثلاً ألف جنيه، وترك خلفه ثلاث بنات ووالدين وزوجة؛ لاحتاج القاضي إلى 1125 جنيهاً؛ حتى يستطيع توزيع التركة بحسب القرآن” (!).
ويطرح الأمر إشكالية تجاهل الوصية، وأنصبة الفقراء والمساكين عند حضور القسمة، وكذا ضرورة الاستعانة بمفهوم الرد، وهو صرف المسألة عمّا هي عليه من الكمال إلى النقص، عندما تكون الأسهم أقل من أصل المسألة؛ فتعود الزيادة على الورثة.
ويبدو الخلاف حول مسألة الرد، دليلاً على شرعية تدخل ولي الأمر في عملية التوزيع؛ حيث يقول علي بن أبي طالب: “يُرد على أصحاب الفروض كل واحد على قدر نصابه، ما عدا الزوجين”. بينما يقول عثمان بن عفان: “يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة”. في حين قال أحمد بن حنبل، وعبد الله بن مسعود: “الرد يكون على أصحاب الفروض إلّا ستة منهم، وهم: الزوج، والزوجة، وابنة الابن مع ابنة الصلب، والأخت لأب مع الأخت لأب وأم، وأولاد الأم مع الأم، والجدة مع ذي سهم أياً كان”. وقال زيد بن ثابت: “لا يُرد الفائض على أحد من الورثة، إنّما يكون لبيت المال”، وبه أخذ الشافعي.
ختاماً، يقودنا كل هذا الجدل إلى ضرورة الانطلاق من قاعدة “حركة النص في التاريخ”، وإعمال العقل وفقاً لارتهانات الواقع وشروطه التاريخية، ومحاولة تكييف التراث، وإعادة غربلته، والإيمان بروح النص المؤسس ومقاصده، وعلى رأسها العدالة.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.