إشكالية العقل "اللغوي" في تطوير المعرفة الإسلامية
كان التعالي باللغة العربية، بوصفها حامل المقدس، سبباً في انغلاقها، وبالتبعية تقويض العلاقة التفاعلية بين النص والاجتماع؛ لتتجلى إشكالية العقل اللغوي في تاريخ نظرية المعرفة الإسلامية، عبر الإغراق في التأويل، بصرف النظر عن طبيعة اللغة النسبية، ودلالاتها الرمزية الواسعة.
نجحت المنظومة الدينية التقليدية، بالتزامن مع تحالفها الضمني مع النخبة السياسية، في تشكيل عوالم مذهبية، احتكرت من خلالها النص المقدس، لغةً وتفسيراً وتأويلاً، عن طريق تهيئة المجال الحيوي المحيط بالنص، بخلق جملة من الحقول الدلالية المشحونة بكل ما هو مطلق ومفارق، بحيث أصبح النص ملغزاً ومطلقاً؛ ومن ثمّ أصبحت المنظومة الدينية فاعلاً رئيساً تتلاقى عندها الأحداث، وتتوزع من خلالها الأدوار المختلفة في الاجتماع.
النص المؤسس
لعل الساحة التي خاض فيها المفكر الراحل، علي مبروك، سجالاته الفكرية، ارتكزت على القرآن كنص له تأثيره الممتد خارج حدوده المكانية والزمانية، حيث ظل يمارس وظيفته التفاعلية منذ اللحظة الأولى، وفقاً لمنطلقات الواقع وحاجات الناس، قبل أن يجري إغلاق اللغة، وتجميد النص في التاريخ.
في كتابه: “نصوص حول القرآن.. في السعي وراء القرآن الحي”؛ يحاول مبروك إعادة موضعة النص المؤسس ضمن شروط الواقع، في محاولة لفتح المجال أمام احتمالات متعددة للتفسير والتأويل، ضمن حركة التاريخ والمسارات المعرفية المختلفة، انطلاقاً من المفاهيم ذات الصلة بحقل الدراسات القرآنية، وبالأخص لغات العرب قبل الإسلام، ولغة النص الديني، وأسباب النزول، والوظيفية في لغة النص؛ كأدوات مدخلية، يمكن من خلالها فهم حركة النص في الاجتماع، منذ لحظة التنزيل، وحتى اكتمال التدوين.
ولعل السؤال المركزي، هنا، والذي يرتبط بلغة النص، باعتبارها وعاء التفكير الحامل للمقدس، هو الكيفية التي أصبحت من خلالها -أي اللغة- ناجزة ونهائية ومتعالية؛ أي مطلقة.
أطلقة النص
يرى علي مبروك أنّ أطلقة النص المؤسس هي عملية ارتبطت بالسياسة، وهو ما يضع النص داخل تحديدات الشرط الإنساني، انطلاقاً من اللغة؛ حيث يرى أنّ “تحولات الوضع الإنساني، هي الأساس المنطقي للانتقال من لحظة إلى أخرى في تركيب ظاهرة الوحي؛ فتنزيل الوحي داخل لغة ما، إنّما ينطوي على تحدّد الوحي بهذا النظام الكامن. وفضلاً عن ذلك، فإنّ كون الوحي يُكوّن حواراً مع واقع المخاطبين به، إنّما يكشف عن تحدده بما يمثل التاريخ الحي الذي يعيشونه بالفعل”.
ويردف: “وهي روح تخاصم الأطلقة وتأباها، وترفض اعتبار الوحي هو الأصل المنتج لها كآلية تفكير، تقتضي التمييز بين المطلق الإلهي الذي انفتح -في رأيه- بوحيه على البشر، تفكيراً وتاريخاً، وبين فعل الأطلقة بما هو -أي الفعل- آلية يسعى بها البعض إلى وضع كل ما يدخل البشر، في تركيبه على نحو جوهري، ضمن مجال يخرج فيه عن التحدّد بما يخص البشر، وهو ما أدركه الجيل الأول، وتغاضى عنه التابعون؛ انصياعاً لإكراهات السياسة”.
ويمكن القول؛ إنّ إغلاق النص بهذه الصورة إنّما يعود إلى دافع موضوعي مباشر، هو إحكام الهيمنة على البنية المعرفية المنبثقة منه والقائمة عليه، وتكريس جملة العلاقات الاجتماعية والثقافية، التي يدخل النص ضمن عملية إنتاجها.
أضف إلى ذلك الحاجة إلى نص سابق على الوجود الإنساني، ينطلق من مفهوم الله المفارق والمطلق، فيغدو هو الآخر مطلقاً بالتبعية، ممّا يحقق أهداف السلطة السياسية في سعيها نحو تغذية مكونات وجودها؛ حيث إنها كانت في أمسّ الحاجة إلى نص يتسم بالأطلقة، يدخل من خلاله وسطاء (فقهاء)، لتفسيره وشرحه وتحديد أطره ومرتكزاته، تلبية لحاجة السلطة السياسية الرامية إلى الهيمنة على الاجتماع. وعليه، تعالت السياسة بالقرآن وردته إلى السماء، لتفقده أهم مميزاته، وهي الحيوية والتفاعل مع المخاطب، بوصفه خطاباً.
وفي مسعاها لإغلاق النص، اتفقت الجماعة اللغوية على ربط الصلة بين اللفظ وما يدل عليه؛ لتغلق العلاقة بين الدال والمدلول، وتنفي كل ما هو واقع خارج الذهن، ممّا يقيد الخيال داخل التصورات الذهنية، وهو الأمر الذي يصفه برنارد وايس بـ”التواطؤ”.
وبالعودة إلى الطرح الذي وضعه علي مبروك، نجد أنّ السياسة كانت أبرز مجالات التحول بتجربة الصحابة من تاريخ إلى نص، حيث لم يتوفر للجيل الأول من المسلمين ما يمكن أن يكون أصلاً “نصاً” يفكرون به في السياسة؛ لعدم وجود تراث مؤثر في ممارسة السياسة والتفكير بها، وبسبب سكوت الوحي عن تعيين طريقة لممارستها، كان لهذا الجيل تجربته الخاصة في السياسة، وهي تجربة اتسمت بالديناميكية والانفتاح من حيث تعليقهم الأحكام على المصالح، وعدم التقيد بأصل يحكمون به المستجدات السياسية.
ويرصد علي مبروك تحول التجربة السياسية (تجربة الصحابة)، إلى أصل بشكل أثقل على كل التاريخ اللاحق، لتغدو موضوعاً للامتثال والتكرار “حيث تتحول من ممارسة مشروطة إلى أصل مطلق لكل ممارسة لاحقة”؛ وذلك، على الرغم من تعدد التجربة، وتفاعلها مع الاجتماع، منذ اجتماع السقيفة، وحتى قيام الحكم الأموي.
أطلقة التفسير
تحت ضغط التحولات التاريخية، تحول القرآن من خطاب مفتوح بين السماء والأرض، إلى ساحة رئيسية لإنتاج الإطلاقية، من خلال التعالي به من وجود من أجل الإنسان إلى وجود سابق عليه، وانطلقت الأفكار نحو بناء فضاءات تسبغ سمات القداسة على النص وكلماته وحروفه والناطق به، بل والصوت نفسه، ليصبح كينونة ذات حضور مكتمل سابق في المطلق، وهو ما واكب تحولات مسار السياسة والصراعات الكبرى حول الحكم. الأمر الذي انقلب بحدة على حالة السيولة التي صاحبت البدايات؛ ممّا قطع الطريق على خلق علاقة ذاتية أكثر قرباً بين الإنسان وخالقه، بحيث لم تعد علاقة حرة يبدو فيها الإنسان حاضراً بكل احتياجاته في العالم.
ترتب على ذلك الصعود بالألوهية مرة أخرى إلى عوالم المفارقة المطلقة، بعيداً عن ملابسات العالم الأرضي النسبي، وتقويض أسس الخطاب القرآني، ليصبح النص وحامله ومفسره من المقدسات، وكأنّ العقل الفقهي يرفض دخول الله إلى التاريخ الإنساني، فهو مطلق مجرد متعالٍ وبعيد لا يمكن الاقتراب من عوالمه المفارقة؛ إلّا عن طريق الوسطاء، أو كما يقول كليمنت الإسكندري: “هو المبدأ الأول المطلق، وعلة كل الأشياء، وهو الخير، والروح والخالق والرب”.
وعليه، أصبح النص المؤسس في كماله مجهولاً في ماهيته الخاصة، بحيث لا يمكن إدراكه، لأنه غير قابل للمعرفة إلّا عن طريق الفقه؛ فلم يعد من حق المؤمن أن يفكر في الله، في محاكاة لمقولة توما الأكويني: “إنّ ذروة معرفة الإنسان بالله، هي معرفته بأنّه لا يعرف الله”. الأمر الذي انتهى إلى مأزق إشكالي، حيث تسبب القول في أطلقة اللغة إلى أطلقة الدلالة بالتبعية؛ وبالتالي أطلقة التفسير، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا في حالة وجود لغة مفتوحة غير مطلقة ولا مقدسة؛ لأنّ اللغة المقدسة لا يمكن أن تكون ساحة لتعدد الدلالة؛ لأنه، بحسب علي مبروك، يستحيل عليها، وهي لفظاً وحرفاً وصوتاً من الله، إلا أن تكون دلالة على قصده، الذي لا بد أن يكون ثابتاً، ولا يمكن أن يكون محلاً للتعدد أو التباين.
وهكذا، فإنّ القول بأزلية الدلالة لا بد أن يؤول إلى القول بواحديتها، ولا تعددها. وغني عن البيان أن المآل الذي تنتهي إليه هذه الواحدية هو تثبيت التصور السلطوي للدلالة. ويمكن القول إنّ هذه الحمولة المعرفية الثقيلة كبلت العقل المسلم، ورسخت لنظام معرفي جامد تمحور حول مفهوم الأصل المطلق، لنصل إلى التطور الأكثر فداحة، وهو التعالي بالمعرفة الدينية وأصولها.
إن المجال التداولي الذي تم فيه استلاب القرآن، فرّغ النص من سماته الأولى وهي التفاعل مع الواقع، انصياعاً لمتطلبات السلطة وتطلعاتها، حيث عملت بالتعاون مع المؤسسة الدينية على توظيف سكونية النص، وإبعاده عن الإنسان، ومن ثم استلابه؛ فأصبح المجال الديني مغلقاً لقرون بفعل المفاهيم الناجزة، والقراءة المتعالية والمؤدلجة للنص، وهو ما قطع الطريق على العقل البشري، وأدى إلى تنميط وتوظيف النص.
وختاماً، لقد كان الإنسان حاضراً في التركيب البنائي واللغوي لفعالية المعنى في القرآن، بوصفه خطاباً، وهو أمر كان لا بد أن ينعكس على طبيعة المعرفة التي نشأت حول القرآن، لولا التعالي باللغة الذي أدى إلى بناء أنظمة معرفية ومذهبية، احتكرت لنفسها القداسة، ومنعت دخول الإنسان ضمن عالم القرآن على صعيد المعنى والتركيب واللغة.
ويمكن القول إنّ القرآن الحي يتطلب مخاطباً حراً وفاعلاً، يتلاقى كلاهما في سياق الواقع، ويستشرفان سوياً ملامح المستقبل؛ فإحياء النص، يعنى تخليصه من سطوة رجال الدين، وسطوة الساسة، وجعله أكثر اقتراباً من عالم الإنسان الفاعل معه بحرية في الكون، وهو ما يعني بالضرورة تحرير المعرفة من أسر الموروث، والارتقاء بها نحو كل ما هو إنساني.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.