الفِرقة الناجية:

حديث الخِلاف والتأثيرات المجتمعية السلبية

مركز حوار الثقافات

09-09-2024

"الفرقة الناجية" مفهوم تتبنَّاه مجموعة غير قليلة من المسلمين، مفهوم مصدره الأساسي كُتُب الصحاح وما تضمه من أحاديث منسوبة للنبي.. فهل لهذه الفكرة وجود في القرآن؟ وهل فعلاً لن يدخل الجنة إلا المسلمون، وكل المسلمين في النار إلا الفرقة الناجية؟ وهل مشايخ وقادة تلك الفرقة الناجية يمتلكون مفاتيح الجنة وصكوك دخولها؟ أم إن كل هذا وهم يصب في مصلحة بعض رجال الدين المتلاعبين به لأغراض سياسية أو لتحقيق سلطة شخصية؟ 

تساؤلات عديدة تدور في رأس المسلم حين يتأمل فكرة "الفرقة الناجية".

 الفرقة الناجية

يفترض مفهوم الفرقة الناجية أن المسلمين سيتفرّقون إلى مجموعة من الفرق، وأن كل هذه الفرق مصيرها جهنم وبئس المصير، إلا فرقة واحدة فقط هي التي ستنجو، وليست لهذه الفرقة صفات يمكن تحديدها بشكل قاطع، ما يجعل الأمر غامضاً وفضفاضاً تماماً.

أولاً، نص الحديث: في صحيح ابن ماجه، وبرواية عوف بن مالك الأشجعي، يُنسب للنبي أنه قال: "افترقتِ اليَهودُ علَى إحدَى وسبعينَ فرقةً فواحدةٌ في الجنَّةِ وسبعونَ في النَّارِ، وافترقتِ النَّصارى علَى اثِنتينِ وسبعينَ فرقةً فإحدَى وسبعونَ في النَّارِ وواحدةٌ في الجنَّةِ، والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لتفترِقَنَّ أمَّتي علَى ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً، واحدةٌ في الجنَّةِ واثِنتانِ وسبعونَ في النَّار، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ مَن هم؟ قالَ: الجماعَةُ". (حكم المحدث: صحيح).

كما ورد نفس الحديث، باختلاف اللفظ، برواية أنس بن مالك وبرواية معاوية بن أبي سفيان.

ثانياً، هل الحديث فعلاً صحيح؟: تعدَّدت روايات هذا الحديث واختلفت صِيَغه، ووصل الاختلاف بين الصيغ إلى درجة أن الإمام محمد بن أحمد البشاري المقدسي ذكر رواية "كلها في الجنة إلا واحدة"، وذكر رواية "كلها في النار إلا واحدة"، ثم قال: "الثانية أكثر شهرة، والأولى أصح سنداً".

كما تعرض الشوكاني لهذا الحديث في "تفسيره"، قائلاً: "أَمَّا زِيَادَةُ كَوْنِهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَدْ ضَعَّفَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ قال ابن حزم: إنها موضوعة".

ما يوضح وجود حالة من الاختلاف الكبير بين رجال الدين حول هذا الحديث.

ثالثاً، رأي المعاصرين: لم يقف خلاف رجال الدين حول هذا الحديث عند الأقدمين، بل امتد ليشمل أيضاً المعاصرين، فيقول الشيخ مصطفى العدوي، في ردّه على أحد المتصلين ببرنامجه: "هذا الحديث كل طرقه ضعيفة، له يمكن عشرون مصدراً كلها ضعيفة، إلا الفقرة الأولى لمُحَسِّنٍ أن يحسنها بمجموع طرقها، وهي (افترقت اليهود حتى وستفترق أمتي) إلى هذا القدر قابل للتحسين، وما وراء ذلك كله فهو ضعيف مع شهرته"؛ ثم نصح بالرجوع إلى كتابه "الصحيح المسند من أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة".

رابعاً، رأي مفتي مصر الأسبق: أما الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية سابقاً، فعلَّق على نفس الحديث في برنامج "الله أعلم"، فقال: "هذا حديث حدث فيه ما يسمى عند علماء الحديث بالإدراج"، وفي شرح ما هو الإدراج قال فضيلته: "الإدراج في الحديث معناه الزيادة، يعني الحديث قد يكون صحيحاً ثم تأتي الزيادة هذه وتكون باطلة".

ولإعطاء مثال للتوضيح: "مثل حديث من قال لأخيه أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغى، هذا حديث صحيح، ثم فوجئنا بوجود رواية زادت عليه (فمن لغى فلا جمعة له)"، مؤكداً أن هذه الجملة الأخيرة ليست من أصل الحديث وإنما أضيفت إليه أو بالمصطلح التخصصي "أُدرجت عليه"، وهو ما يقول إنه حدث مع حديث "ستفترق أمتي".

وفي كتابه "التفكير الفلسفي الإسلامي"، قال شيخ الأزهر الأسبق، الدكتور عبد الحليم محمود: "ولكن ممّا يدعو إلى الارتياح ويثلج الصدر أن الشعراني في ميزانه قد روى من حديث ابن النجّار، وصحَّحه الحاكم بلفظ: «غريب»، وهو: «ستفترق أمتي على نيِّف وسبعين فرقة، كلّها في الجنّة إلاّ واحدة». وأضاف العجلوني في كشف الخفا أنّه رأى في هامش الميزان في تخريج أحاديث مسند الفردوس، للحافظ ابن حجر، عن أنس، عن النبيّ: تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلّها في الجنّة إلاّ الزنادقة".

وبشكل عام، متن الحديث يدعو إلى التأمل، هل تصاعُد الانشقاقات هذا طبيعي؟ (واحد وسبعون، اثنتان وسبعون، ثلاثة وسبعون)، والأهم هل لهذا الطرح أصل في القرآن؟

مرجعية القرآن

بطبيعة الأمر دائماً، إذا اختلط الفهم بخصوص أي مسألة تخص الدين، يكون القرآن هو المرجعية التي لا خلاف عليها بين عموم المسلمين.

أولاً، الفرقة الناجية في القرآن: لا يوجد في القرآن أي آية تتحدث بشكل واضح وصريح عن مسألة الفرقة الناجية بأي شكل، إنما يجري الاستدلال عليها بتأويل بعض آيات لم تأتِ بدلالة قاطعة، مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾ [آل عمران: 103].. وقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٭ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 31-32].. وأيضاً، قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].

وكما هو واضح من نص هذه الآيات، لا يمكن أن يُفهم منها بشكل مباشر "قطعي الدلالة" أن المقصود منها نفس ما ورد في الحديث المشكوك في متنه.

ثانياً، أسوأ أمة أم خير أمة؟: لا ينتهي الأمر عند حد عدم الذِّكر الصريح للفرقة الناجية في القرآن، بل يتجاوز ذلك إلى تناقض المفهوم نفسه مع ما ورد فيه؛ فالحديث يقول إن اليهود افترقوا على واحد وسبعين فرقة زادت إلى اثنتين وسبعين عند النصارى ثم سيتفاقم الأمر أكثر مع المسلمين إلى ثلاث وسبعين شعبة، فكيف يكون أسوأ وضع هو وضع ﴿خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾؟

وهو ما ذهب إليه الدكتور مصطفى عبد الكريم، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، خلال محاضرته "مفهوم الفرقة الناجية"، ضمن سلسلة محاضرات عقدتها المنظمة العالمية لخريجي الأزهر، قال فيها: "المفهوم الحقيقي للفرقة الناجية هي أمة الإجابة والتصديق، فكلها من أهل النجاة؛ لأن دين الإسلام هو دين الرحمة والهداية للخلق أجمعين، ولم يكن قط في عصر النبوة ما يعرف بالانشقاق على أساس العقيدة والفكر، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52]، مشيراً إلى أن قيام جماعات التطرف بترويج هذا المفهوم للفرقة الناجية، إنما يقصد به الدعاية الموجهة لاستقطاب الشباب لهذا الفكر المضلل".

ثالثاً، تأثيرات مجتمعية سلبية: لكل فكرة أو مفهوم في الحياة آثارها في حياة المجتمع الذي تنتشر فيه هذه الفكرة أو هذا المفهوم، وبطبيعة الحال حدث تأثير لانتشار مفهوم الفرقة الناجية بين المسلمين.

ولهذا المفهوم تحديداً آثار سلبية عديدة، فهو أحد المرتكزات الرئيسية لجماعات الإسلام السياسي، في تكفيرها كل مسلم يختلف معها أو حتى لا ينضوي تحت لواء أفكارها ورؤيتها الخاصة للدين.. الأمر الذي أوضحه الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف المصري، خلال حواره في برنامج "الحق المبين"؛ إذ قال: "السلفي يكفّر المجتمع ويصل حتماً إلى فكرة الجاهلية وأنه الفرقة الناجية، وبنفس المنطق الإخواني يكفّر المجتمع من مدخل آخر ويصل إلى فكرة الجاهلية وأنه الفرقة الناجية حتماً، لأن خريطة التفكير واحدة عند الإخواني والسلفي".

وأكد في السياق نفسه أن هذه الجماعات ترفض فكرة "أن رحمة الله تسع الجميع"، وهذا هو البُعد النفسي المولّد لفلسفة "الفرقة الناجية" عند هذه التيارات.

وختاماً، فإن فكرة الفرقة الناجية بطبيعتها تؤدي إلى تأجيج النزعات الطائفية بين المسلمين؛ إذ لن يكتفي أصحاب كل فرقة أو مذهب باعتبار أنفسهم على حق أو أقرب إلى الله، بل سيتجاوزون ذلك إلى كونهم "الفرقة الناجية". وبالتالي، سيكون باقي المسلمين في النار لأنهم على باطل، وهنا يسهل تكفيرهم.. وهذا هو مفتاح التيارات المتشددة في تشويه صورة المجتمع في عيون جمهورها لتستقطبهم وتقنعهم بمهاجمة الأبرياء وإيذائهم وفرض رؤيتهم الدينية عليه بالإكراه، بوصفها صحيح الدين، باعتبارها وحدها "الفرقة الناجية".

لذلك، فإعادة التفكير في هذا المفهوم أمر في غاية الأهمية، لتعزيز روح التسامح والحوار بين المسلمين على مختلف فرقهم وطوائفهم.

 

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة