محمد عبده وأصول الإسلام الثمانية
انطلق الإمام محمد عبده (1849-1905م)، في كتابه “الإسلام بين العلم والمدنية”، من واقع العالم الإسلامي آنذاك، الذي استعمرت فيه أوروبا العالم الإسلامي نتيجة مطامعها، فضلاً عما سماه “تخلُّف” البلاد الإسلامية، الذي ردَّه الغربيون إلى طبيعة الإسلام نفسها؛ وهو الأمر الذي رفضه الكتاب ومؤلِّفه وتصدى له، ليوضح أن ما حدث في العالم الإسلامي من جمود، ثم موجة استعمارية، لا علاقة له بالدين الإسلامي، ولا بأي دين أصلاً؛ بل سببه تجاهل المسلمين التعامل مع دينهم بروح جديدة، فتفشَّى فيهم الجمود والتقليد الأعمى تاركين الاجتهاد وإعمال العقل.
واشتمل الكتاب على مساجلة فكرية بين وزير خارجية فرنسا آنذاك، “جابرييل هانوتو” (1853-1944م) وبين “عبده”، عن طبيعة الإسلام وأسباب “تخلُّف” المسلمين.
تسامح الإسلام والمسيحية
والإسلام، حسب قول محمد عبده، دينٌ دعا إلى الإعداد الحربي فقط لمنع الاعتداء على المسلمين: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ…﴾ [الأنفال: 60]، ورغم ذلك يتساهل المسلمون في ذلك الإعداد وفي طلب القوة، فسيطر عليهم غيرهم، حسب رأيه.
إذاً، “المسلمون” و”المسيحيون” تجاهلوا تعاليم دينهم، وعملوا عكس مقتضاها، فـ”القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المتمسكين بعراهما”، وفق قول المؤلف.
الإسلام وأهمية العقل
تتضح أهمية العقل عند “عبده” في تأكيده على أهميته في أصول الإسلام؛ فالإسلام في حقيقته له دعوتان: “دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة النبي محمد”؛ الأولى، سبيلها العقل البشري والنظر في الكون والتدبر في آثاره، حتى يهتدي إلى الله؛ والثانية، تكون عبر إعمال العقل في البراهين والأدلة التي جاء بها النبي، مستنداً في هذه الرؤية إلى القرآن الكريم: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 82]، حسب قوله.
أصول الإسلام الثمانية
اشتق “عبده” في كتاب “الإسلام بين العلم والمدنية” ثمانية أصول للإسلام، أساسها العقل وهدفها المؤاخاة بين المسلم وغير المسلم، وإيجاد حالة سلمية بين المسلمين وبين غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وهذه الأصول كالتالي:
1- العقل وتحقق الإيمان: أكد “عبده” أهمية العقل وإعماله تحقيقاً للإيمان، وجعله أساساً لتحصيل الإيمان؛ وأولى القواعد التي بُني عليها الإسلام، فيقول: “والنظر هو وسيلة الإيمان الصحيحة”.
2- العقل وظاهر الشرع: قدم “عبده” العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وجعله أصلاً من أصول الدين اتفق عليه “أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً”؛ وجعل تفسير القرآن موضوعاً للعقل، وجعل السُّنة محلاً للاجتهاد العقلي بالنظر في نصوصها، وتجاهل ما يؤديه ظاهرها إلى ما يخالف صالح المسلمين.
3- رفض دعاوى التكفير: رفض المؤلف التكفير وطالب بالبعد عنه، حتى إنه قال إذا صدر قول “يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر”.
4- الاعتبار بالسُّنن الإلهية: الدعوة إلى الحق بعد الأنبياء لا يجب أن تكون بغير دليل، ويجب الاعتبار بالسُّنن الإلهية الكونية والقوانين ومجرياتها في الأمم، مع “الأخذ بما ينتج عن التبصُّر وإعمال العقل فيها”، حسب قوله. وهذا الأصل، عند “عبده”، امتداد واضح لمنهجه العقلاني، الذي يدعو فيه إلى استخلاص الحقائق والقوانين الثابتة عبر الاعتبار بسُنن الله في خلقه.
5- السلطة الدينية والسلطان: أوضح المؤلف أن الإسلام هدم السلطة الدينية وقضى عليها؛ فـ”لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه”؛ فالرسول كان “مبلّغاً ومذكّراً، لا مهيمناً ولا مسيطراً”، والقرآن يقول: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٭ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ﴾ [الغاشية: 21-22]؛ ولكل مسلم الحق في “أن يفهم عن الله من كتابه، وعن رسوله من كلامه، دون توسيط من سلَف أو خلف”.
إذ ليس في الإسلام سُلطة دينية بأي حال، حسب قوله؛ وبذلك، نزع الكتاب القدسية عن “السُّلطان” في الإسلام، ورفض الاعتراف بسلطته الدينية؛ ووفقاً لهذا المنهج، فـ”الخليفة غير معصوم، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسُّنة”.
6- الجهاد ضد المعتدين: رفض المؤلف وصف الإسلام بأنه “دين جهادي يحض على القتل”؛ فالجهاد هدفه رد الاعتداء، حسب قوله؛ وهو أمر غير خاص بالإسلام وحده، فردُّ الاعتداء أمر ثابت في تاريخ البشرية كلها، بينما طبيعة الإسلام هي العفو والمسامحة، مستشهداً بقوله تعالى: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]؛ ومؤكداً أن مفهوم الجهاد في الإسلام يكون لردِّ المعتدين وليس “للإكراه في الدين أو الانتقام من مخالفيه”، حسب قوله.
7- مودة المخالفين في العقيدة: دعا الإسلام إلى التسامح والمودة مع مخالفيه؛ وعلى سبيل المثال، فإن الإسلام أباح زواج المسلم من مسيحية أو يهودية، وضمن للزوجة غير المسلمة حقوقها في البقاء على دينها وعقيدتها وممارسة شعائرها، فكانت المصاهرة مع غير المسلمين من المسيحيين واليهود باباً للمودة والرحمة، حسب قوله.
8- الجمع بين الدنيا والآخرة: نادى الإمام محمد عبده بضرورة المواءمة بين الدنيا والآخرة، دون أن تتغوّل واحدة على الأخرى؛ وقدَّم الحق في الحياة على الدين، وأعطى الإنسان الحرية في الاستمتاع بالحياة، فأباح له الزينة والطيبات وأجاز “التوسع في التمتع بالمشتهيات شريطة الاعتدال وحسن النية”؛ بل ونهى عن الغُلُو في الدين، رافضاً “الغُلُوَّ في طلب الآخرة، فيُهلك الإنسان دنياه وينسى نفسه”، حسب قوله.
العلوم الأدبية والعقلية
1- الاهتمام بالعلوم الأدبية: وفقاً للكتاب، فإن الإسلام حرَّض على الاهتمام بالعلوم الأدبية، فقد طالب الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، بتعليم الآداب والعلوم واشتق قواعد لعلوم رأى أن الناس في حاجة إليها، واستمر اهتمام المسلمين بالآداب بعد علي بن أبي طالب في الدولة الأموية والدولة العباسية.
2- الاهتمام بالعلوم الكونية: اهتمام المسلمين بالعلوم الكونية من مفاخر الإسلام عند “عبده”، فقد حرصوا على تعلم العلوم حتى الوافدة عليهم من الحضارة اليونانية القديمة وترجموها، وأنشؤوا دُوراً للكتب اشتملت على مصنفات في الطب والفلك والكيمياء والفلسفة؛ وأسسوا المدارس العلمية في جميع المدن دون استثناء، مستشهداً بالمستشرق الإنجليزي “إدوارد جيبون” (1737-1794م)، الذي قال عن اهتمام المسلمين بالعلم: “إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم…”.
من أين جاء الجمود؟
يُفسر كتاب “الإسلام بين العلم والمدنية” الجمود الذي أصاب العالم الإسلامي، بأنه ظاهرة غريبة عن الإسلام، لا علاقة له بها ولا يصح أن تُنسب إليه، حسب قوله. أما سبب الجمود، فيراه في الحرص على التمسك بالقديم الناتج عن “عبادة الهوى واتباع خطوات الشيطان”، حسب قوله.
لقد ترك المسلمون الاجتهاد العقلي والتجديد وفق مقتضيات الواقع، الذي دعا إليه الإسلام، فأصابهم الجمود الفكري لتقليدهم الأعمى الفارغ من المحتوى العقلي، ناصحاً العالم الإسلامي بأن يتخلص من علة الجمود باتباع القرآن والعودة إلى العلم والنهل من منابعه، والاجتهاد العقلي في فهم القرآن، ودراسة السُّنة النبوية دون التقيد بظاهر النص.
الإسلام وحضارة أوروبا
الحضارة الغربية مدينة للإسلام، حسب “عبده” في كتابه، والعلوم سواء اليونانية القديمة التي طوّرها العرب أو استحدثوا غيرها، انتقلت إلى أوروبا من العالم الإسلامي، ما أسهم في النهضة العلمية الأوروبية حتى أصبحت على ما هي عليه من حضارة، حسب قوله.
ويُطالب “الإسلام بين العلم والمدنية” المسلمين بالعودة إلى سماحة الإسلام، وإعادة رتق الهوة بين الدين والعلم، فالخلاف الذي طرأ على العالم الإسلامي لم يكن بين “الدين والعلم، بل كان بين أهل الدين وأهل العلم”، وتغلّب فيه أهل الدين.
ويدعو “عبده” في خاتمة الكتاب إلى ترك “التكفير والتفسيق”، الذي ضرب العالم الإسلامي في مقتل، مع العمل على الاهتمام بآثار السلف وتنقيتها ومواءمتها العصر الحالي، عبر العقل والعلم.
وختاما، تُمثِّل الدعوة إلى العقل ونبذ الجمود والتقليد، وكشف الخلل التراثي في التناول التقليدي البعيد عن العقل، الرؤية المركزية في كتاب “الإسلام بين العلم والمدنية” للإمام محمد عبده، الذي دشن فيه أصولاً ثمانية للإسلام، جعل منها بداية اللحاق بركب الحضارة التي فاتت العالم الإسلامي، ورأى فيها منهجاً كافياً للقضاء على “التخلُّف” الذي أصابه، نتيجة ابتعاده عن أصل دينه، الذي طالما حضَّ على العلم والمنهج العقلي.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.