الطلاق الشفهي:

ضرورة رؤية تجديدية تمنع التفكك الأسري

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

تثير مسألة الطلاق الشفهي جدلاً واسعاً، زادت دائرته بالتزامن مع بداية توثيق عقود الزواج والطلاق رسمياً في النصف الأول من القرن العشرين. ورغم أن أسماء الأزواج، كانت تُدوَّن في فترات سابقة، منذ الفتح العربي، (عام 21 هجرياً / 923 ميلادياً)، فإن الجدل حول “الطلاق الشفهي” احتد بين الفقه والقانون، وصار أزمة قائمة مع إصدار دساتير منظمة لشؤون الزواج والطلاق ولعملية الأحوال الشخصية في كل بلد.

وكلما طرحت مسألة الطلاق الشفهي تُصاحبها مجموعة تساؤلات، من بينها: ماذا يحدث حين يطلِّق زوج امرأته شفهياً، دون شهود عليه أو دون توثيق هذا الطلاق بأي صورة من الصور؟ هل يجوز للمرأة “المطلقة شفهياً فقط” الزواج بآخر؟ وهل يُعدُّ زواجها ذاك شرعاً زنا؟ وإذا رفض الزوج توثيق طلاقه وأدركه الموت، فهل يحق لزوجته “المطلقة شفهياً” أن ترثه بموجب عقد زواجهما؟

تساؤلات تطرح مسألة “الطلاق الشفهي” باعتباره قضية مجتمعية خطيرة، لاختلاف توثيق الزواج والطلاق عن أيام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خلاف بين القانون المدني والفقه التراثي “المستقِر”.

انتقادات متواصلة

تُوجَّه للطلاق الشفهي مجموعة من الانتقادات، التي يعتبرها البعض أدلة نسف للسياق التاريخي لعملية الطلاق الشفهي، المعمول بها حتى اللحظة الراهنة في كثير من دول العالم الإسلامي:

أولاً، صعوبة إثبات الطلاق: في بعض الحالات يُنكر الزوج نطقه بيمين الطلاق، رغم فعله، ما يعني أن زوجته، وفق المعمول به، لم تعد زوجته من الناحية الشرعية، لكنها من الناحية القانونية تظل زوجته، ما دام أنه لم يتخذ الإجراءات القانونية لتوثيق ذلك الطلاق رسمياً. ومن ثم، تُصبح الزوجة معلقة، يمتنع زوجها الذي ألقى عليها يمين الطلاق شفهياً عن حقوقها الشرعية، وقد يتركها على هذه الحالة المعلقة دون توثيق الطلاق، فلا تتمكن من الزواج مرة أخرى.

ثانياً، تجاوز السياق الزمني: من بين الانتقادات الموجهة إلى الطلاق الشفهي أنه لم يعد مناسباً لمقتضيات العصر في ظل ظهور معطيات سريعة ومتغيرة، تختلف عن السياق التاريخي، الذي تَولَّد فيه هذا الطلاق، وظل معمولاً به حتى الآن. ويرى بعض الفقهاء أن قيام الدولة، بمفهومها الحديث، ودخولها طرفاً ثالثاً في المعاملات، ألغى بالتبعية مسألة “الشفهية” برمتها، التي كانت قائمة، قبل قيام الدولة وسياقاتها القانونية والدستورية.

ثالثاً، زيادة التفكك الأسري: يُتهم الطلاق الشفهي بأنه يزيد مشكلة التفكك الأسري تأزماً؛ إذ في بعض الحالات يندم الزوج على النطق بالطلاق، ويود العودة عن قراره بعدما يستقر نفسياً، ويفكر في المسألة، لكن مسألة الشفاهة تحرمه من ذلك.

رابعاً، إغلاق باب الاجتهاد: يُتَّهم المطالبون باستمرار النهج الشفهي في الطلاق بإغلاقهم باب الاجتهاد، الذي كان معمولاً به في فترات الازدهار من التاريخ الإسلامي؛ وكان من بينها قرارات الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، خلال فترة خلافته، في مسائل الطلاق، التي اختلفت عما كان مُقرراً ومُطبقاً خلال حياة النبي عليه الصلاة والسلام وفترة خلافة أبي بكر الصديق.

إذ كان الناس في زمن النبي إذا ألقوا يمين الطلاق ثلاثاً، فقال الرجل لزوجته أنت طالق أنت طالق أنت طالق في قول واحد، لا ينون إلا طلقة واحدة؛ أي إن السائد في عهد النبي الأكرم وعهد أبي بكر الصديق، أن تُحسب طلقة واحدة. إلا أنه في زمن عمر، كان الناس يقولون لفظ الطلاق ثلاثاً في جلسة واحدة، ينون في كل لفظ طلقة، فاعتبر عمر ذلك طلاقاً بائناً ثلاث مرات. وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس قال: “كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم”.

خامساً، تعارض الزواج والطلاق: يُشترط في إتمام الزواج وجود ولي وشاهدين، شرطاً لصحة وسلامة الزواج، في حين أن الطلاق يحدث بمجرد النطق به. ويتساءل نقاد النهج الشفهي في الطلاق عن أسباب هذا الاختلاف بين العقدين، عقدي الزواج والطلاق، ويطالبون بأن تكون إجراءات الزواج، التي تستوجب ولياً وشاهدَين، هي نفسها إجراءات الطلاق.

سادساً، خلاف حول الإدراك: منح الإسلام الرجل الحق في الطلاق، دون إبداء سبب. وحسب الفقهاء، فإن النطق بيمين الطلاق يؤدي إلى وقوعه. وقد اختلف العلماء حول مسألة الإدراك والوعي كشرط لوقوع الطلاق، فذهب بعضهم إلى أن طلاق السكران والغاضب الذي دخل لمرحلة الإغلاق يقع، بينما خالف علماء آخرون هذا الرأي وذهبوا إلى أن طلاق السكران أو الغاضب غضب الإغلاق لا يقع.

واستند الفريق الأول إلى الحديث الذي جاء في سنن الترمذي: “ثلاث جدّهن جد وهزلهن جدّ: النكاح والطلاق والرجعة”؛ بينما استند الفريق الثاني للحديث الذي جاء في مسند أحمد وسنن ابن ماجه وغيرهما: “لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ”، والإغلاق هو “مرحلة يسببها الغضب الشديد الذي قد يتصرف الشخص فيها دون أن يدري”.

وأوضح القرآن الكريم مسألة النطق بالأيمان في المطلق، ووضع تشريعاً لها في سورة البقرة، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾ [البقرة: 225]. وهذا يعني أن بعض الأيمان في حالات مُعينة قد تكون “لغواً”، خصوصاً إذا كان اليمين عادة تجري على لسان مَن ينطق بها، وهو ما ينطبق على من اعتاد شفاهية تكرار يمين الطلاق.

رؤية قرآنية

وردت مفردة “الطلاق” في عديد من المواضع بالقرآن الكريم، وشرحت آيات التنزيل الحكيم تفصيلياً ما يحيط بعملية الطلاق وخطواتها، وفق تسلسل يحمي الأسر من التفكك. وحدد السياق القرآني مجموعة من الشروط والضوابط لتأكيد حدوث الطلاق وصحته:

أولاً، ما عُقد بشاهدَين لا ينفضُّ إلا بشاهدَين: يُشترط في إتمام الزواج وجود ولي للزوجة وحضور شاهدَين، وذهب بعض العلماء إلى تفضيل وجود شاهدين على الطلاق والرجعة مستشهدين بقوله تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِۚ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا﴾ [الطلاق: 2]؛ فالسنة أن يَشهد شاهدان.

وجاء في تفسير القرطبي للآية الكريمة “قوله تعالى: وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ، فيه ست مسائل: الأولى، قوله تعالى: وَأَشۡهِدُواْ، أمر بالإشهاد على الطلاق.. وقيل: على الرجعة، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد، ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء؛ وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة..”. وبالتالي، يرى بعض العلماء الإشهاد في الطلاق والرجعة، بينما لا يرى ذلك آخرون.

ثانياً، قواعد قرآنية حاكمة للطلاق: وردت في سورة الطلاق، في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا﴾ [الطلاق: 1].

وتفسر هذه الآية، بناءً على السياق القرآني، بأن الطلاق لا يقع إلا بانتهاء العدة؛ ما يعني أن الزواج يظل واقعاً ما دامت العدة لم تنقضِ، كشرط أولي لحدوث الطلاق. كما أن الآية ملزمة للزوج إبقاء الزوجة في المنزل طوال فترة العدة، شريطة عدم ارتكاب الفاحشة؛ كما تفسر بأنه إذا تصالح الزوجان، قبل انتهاء العدة، فيعني أن الزواج قائم، مهما نطق الزوج بأيمان من الطلاق.

ثالثاً، الطلاق وفق تسلسل زمني: يرى النص القرآني أن عملية الطلاق يجب أن تمر بمجموعة من المراحل، حفاظاً على مصلحة الأسرة، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ…﴾ [البقرة: 229].

وتبعاً لدلالة اللفظ القرآني، فإن دلالة “مَرَّتَانِۖ” تختلف كلياً عن دلالة كلمة اثنتين، بمعنى أن كلمة مرتين تعني حدوث الفعل في زمنين منفصلين، في حين أن كلمة اثنتين تدل على وقوع الفعل لحظياً. ويُقصد بذلك أن الطلاق مرتان تعني أن الطلاق يجري على مرحلتين في مراحل زمنية مختلفة، ويتبع نفس النهج في كل مرحلة.

ويفسر ذلك بأن المرحلة الأولى المقصودة تعني أنه حال إصرار الطرفين على الطلاق، تنقضي العدة لـ”ثلاثة” أشهر، وفي حالة أصر الطرفان على استمرار الطلاق، تبدأ المرحلة الثانية لـ”ثلاث” أخرى، وفي حالة عدم الرغبة في العودة، بعد انتهاء المرحلتين، يعتبر الطلاق قائماً.

شواهد تاريخية

يرى كثير من الفقهاء المعاصرين ضرورة أن يكون الطلاق وفق نهج عصري، يضع ضوابط صارمة حفاظاً على البيوت من التفكك، وفق معطيات الزمان والمكان، وعدم التقيد بالوضع، خلال فترة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، نظراً لتباين الظروف والأحداث، استناداً إلى مجموعة من الرؤى:

1- رؤية عمر بن الخطاب: تبنَّى عمر بن الخطاب في بداية خلافته، موقفاً حازماً تجاه إصدار الطلاق بالثلاث، وذلك بعد أن رأى أن الناس قد استغلوا هذا الأمر وتتابعوا فيه بطريقة لا تتفق مع تعاليم الإسلام ومبادئه. فكان أن قرر عمر بن الخطاب تقييد إعطاء “الطلاق بالثلاث” ليكون مرتبطاً بشروط صارمة، وذلك بهدف ردع الناس عن الوقوع في ما يحرمه الله من إيقاع الطلاق.

2- رؤية جمهور الصحابة: انتهج جمهور الصحابة، ومن بعدهم الأئمة الأربعة والتابعين من الفقهاء في العصور اللاحقة، نهجاً مشابهاً لنهج عمر بن الخطاب؛ إذ اتفقوا على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يعتبر “مُحرماً”، ويبقى زواج المرأة سارياً، ولا يُحسبه إلا كطلاق واحد.

وبالتالي، فإن موقف عمر بن الخطاب من التجديد، وعدم تطبيقه ما قاله الرسول باللفظ، في مسألة الطلاق الشفهي، كان مبنياً على اجتهاده في تنظيم شؤون المجتمع وحفظ استقرار الأسرة. وهذا الموقف تابعته الأجيال اللاحقة من الفقهاء بالإجماع، مما جعل هذا التشريع جزءاً أساسياً من الفقه الإسلامي المعمول به حتى اليوم.

وختاماً، تظل مسألة الطلاق الشفهي مسألة شديدة التعقيد، وتحتاج إلى حلحلة من جمهور الفقهاء، تناسب العصر والزمن، وفق رؤى تجديدية، كالتي انتهجها عمر بن الخطاب، لكي تناسب السياقات والمعطيات العصرية، حرصاً على الأسر والبيوت من التفكك، في ظل تنامي حالات الطلاق في العالم الإسلامي، التي يحدث أغلبها شفاهية نتاج غضب أو عدم إدراك لخطورة المسألة في كثير من الأحيان.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة