الدين والثقافة:

أقوال مأثورة تُنازع الدين في قداسته

مركز حوار الثقافات

09-09-2024

عديد من الأفكار أو الأقوال أو السلوكيات التي تنتشر بين الناس هذه الأيام، يُلبسونها ثوب الدين، وهو منها براء، سواء كانت أفكاراً أو أقوالاً، حسنة أو سيئة، لكنها تُلصِق باطلاً بالدين، وهو ما يهمنا في هذا السياق. وتشمل هذه الظاهرة، التي تُسمى الانتحال بالدين، أموراً كثيرة ومتنوعة، منها البسيط كالحرص على إخفاء أسماء النساء، ومنها الكارثي مثل ثقافة الثأر بكل ما تحمله من تأثير سلبي في المجتمع وتشويه لصورة الدين.

النحل والانتحال

كلمة الانتحال مشتقة من انتحل، ويُقصد بالانتحال هو "السطو على نتاج فكري للغير، وأخْذ ذلك النتاج (جزئياً أو كلياً)، ونسبته لشخص غير كاتبه الحقيقي".

وتعرَّض الإسلام لهذه الحالة دون قصد أو استهداف، فقد ألصق بعض المسلمين عاداتهم المجتمعية أو أقوالهم المأثورة بالدين.

أولاً، ثقافة الثأر: تنتشر ثقافة الثأر في بعض المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة، ويلصق هؤلاء ثقافتهم الثأرية تلك بالدين، مُنطلقين من آيتين متتاليتين في سورة البقرة؛ إذ تبدأ الآية الأولى بقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ﴾ [البقرة: 178]؛ وتأتي الآية الثانية، بقوله سبحانه: ﴿وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179].

وهم بذلك لا يدركون الغاية من الآية؛ فالغرض من القِصاص هو تحقيق العدالة التي هي أساس السِّلم المجتمعي، الذي بدوره هو غاية التشريع ككل. فإذا كان كل شخص يقتص بنفسه لنفسه، فأين هذا السِّلم المجتمعي؟ إذ حيئذ سيكون القوي في مَنَعة من الضعيف، وسيحاول الضعيف أن يعتمد على الحيلة والمباغتة ليقتص لنفسه.. إلخ.

يقول القرطبي في تأويله للآية "179" من سورة البقرة: "اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو مَن نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض".

ما يتفق مع بداهة أن القِصاص هو أحد الحدود، وتنفيذ الحدود هو مهمة ولي الأمر وليس لآحاد الناس تنفيذها، وإلا سادت الفوضى المجتمعات.

ثانياً، إخفاء أسماء النساء: وهو أمر اعتاده كثير من المسلمين في وقتنا الحاضر، وهو من باب الحَياء في ذكر اسم المحارم من النساء، وهذا الأمر لا علاقة له بالدين، فكشْف اسم الأم ونحوها من النساء شيء عادي؛ فالقرآن ذكر مريم ابنة عمران باسمها، في قوله عزَّ من قائل: ﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]، وفي قوله عزَّ وجل في سورة مريم، عرف سبحانه نبيه عيسى باسم أمه صراحة: ﴿ذَٰلِكَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ قَوۡلَ ٱلۡحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمۡتَرُونَ﴾ [مريم: 34].

كذلك فعل النبي في الواقعة التي روتها عنه أم المؤمنين صفية بنت حيي: "كان رسول الله معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً فحدّثته، ثم قمتُ فانقلبت، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي أسرعا. فقال النبي: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءاً" (متفق عليه واللفظ للبخاري).

فنرى أن النبي لم يستحي من ذكر اسم زوجته، كما أوردت لنا السِّيَر والأحاديث أسماء كل أمهات المؤمنين والصحابيات وزوجات الصحابة وأمهاتهم، ولو كان في الأمر حُرمانية أو حتى كراهة لخفيت عنا كل تلك الأسماء.

وعليه، فلا بأس أن يذكر الإنسان اسم أمه، لكن لا علاقة للشرع أو الدين عموماً بهذه المسألة، إنما هي الأعراف والعادات والتقاليد.

ثالثاً، بالعقل أم بالوحي: جُمل كثيرة بحُكم الانتشار والقِدم يتعامل معها الناس بوصفها جزءاً حقيقياً من الدين، رغم أنها ليست آية ولا حديثاً صحيحاً، إنما مجرد مقولة شعبية أو قول مأثور مثل مقولة «ربنا عرفوه بالعقل».

بداية سورة البقرة، وتحديداً أول أربع آيات منها، تشرح أن المطلوب من الإنسان المسلم هو "الإيمان بالغيب"، في قوله سبحانه وتعالى: ﴿الٓمٓ ٭ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٭ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٭ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 1-4].

وبالعودة إلى قصص الأنبياء كما وردت في القرآن، أو السِّيَر، سنجد أن الوحي الإلهي كان الوسيلة التي عرف بها الأنبياء والرسل ربهم، وليس بعقولهم المجردة.

النبي إبراهيم، خليل الله وأبو الأنبياء، استطاع –بعقله- أن يرفض عبادة الأصنام، لكن لم يستطع معرفة الله، كما تخبرنا الآيات في سورة الأنعام، في قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَاماً ءَالِهَةً إِنِّيٓ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٭ وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ ٭ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيۡهِ ٱلَّيۡلُ رَءَا كَوۡكَبٗاۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ ٭ فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغٗا قَالَ هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمۡ يَهۡدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّآلِّينَ ٭ فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةٗ قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَآ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّآ أَفَلَتۡ قَالَ يَٰقَوۡمِ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ٭ إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ [الأنعام: 74-79].

ورغم اعتقاد النبي إبراهيم في وجود خالق لتلك السماء وهذه الأرض، وحتى بعد أن أُوحي إليه لم يكن قلبه مطمئناً تماماً لما هو عليه، كما ورد في الآية 260 من سورة البقرة ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾ [البقرة: 260].

رابعاً، مسألة كليم الله

قصة النبي موسى حسب ما وردت في سورة طه (الآيات من 9 إلى 24)، فالله بادر وكلّم نبيه مباشرة.. ومنحه معجزتين خارقتين للطبيعة حتى آمن به. يقول سبحانه: ﴿فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ ٭ إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى ٭ وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ ٭ إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ﴾ [طه: 11-14].

رغم ذلك طلب موسى من الله أن يسمح له برؤيته، كما جاء في قوله تعالى من سورة الأعراف: ﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي وَلَٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِيۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّٗا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗاۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].

والقصص المشابهة كثيرة في إعلان واضح أن الله تبارك وتعالى هو إله غيبي يختار رسله أو أنبياءه ويعرفهم بذاته كيفما يشاء، ثم يخاطب بقية البشر عن طريقهم. فمهمة العقل هي التدبُّر في أحكام الإله وحكمته وعجائب خلقه.. إلخ، وليس التفكير في ماهية الخالق، فالعقل النقدي والتفكير المنطقي مهمان عند النظر إلى من يدعي الألوهية من دون الله، كما في قصة النبي إبراهيم حين فكر بالعقل والمنطق في دين أهله، فكانت النتيجة أنه كفر بعبادة الأصنام.

وختاماً، ليس كل منتشر أو سائد هو من الدين، فكثير من الأمور الشائعة لا علاقة لها بالدين، فقد تكون أشياء حميدة لكن من المهم الفصل بينها وبين ما هو دين، فالعادات والتقاليد تتغير بمرور الزمان وبتغير المكان، وما هو مستحسن من العادات اليوم قد يُستقبح غداً؛ كما أن من يرفض هذا السائد غير آثم ولا وِزْر عليه، بل إن من يلتزم هذا السائد قد يكون آثماً ويقع في ذنوب قد تصل به إلى ارتكاب كبيرة، كما في حالة الثأر مثلاً.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة