بين الاتفاق على ضرورة التجديد والاختلاف على طبيعته
يتردد مُصطلح "تجديد الخطاب الديني" كثيراً في الآونة الأخيرة، ويرتبط في أذهان كثيرين بنظرية المؤامرة؛ إذ يعتبره عوام المسلمين جزءاً من "المؤامرة الكبرى" التي تشترك فيها كل قوى العالم ضد الإسلام والمسلمين، بينما يراه كثير من المثقفين ومَن يُطلق عليهم "تنويريون" ضرورة عصرية مُلحة، بينما المؤسسات الدينية تستخدم مصطلح "تجديد الفكر الديني"، وقد اشتبك عديد منها -أي تلك المؤسسات الدينية- مع هذا الأمر، فنظم الأزهر الشريف مؤتمراً دورياً بعنوان "مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية".
فما المقصود بمصطلح "تجديد الخطاب الديني" الذي يثير مخاوف الناس؟ ولماذا يرتبط في أذهان المسلمين بنظرية المؤامرة؟
المؤسسات الدينية
تعددت تفسيرات مصطلح "تجديد الخطاب الديني" لدرجة أن اختلف حوله المتخصصون والمهتمون والمعنيون، فكما رأى كثير من غير المتخصصين أنه جزء من المؤامرة الخفية على الإسلام، رآه بعض رجال الدين عودة إلى نقطة البداية، بينما رأى فريق ثالث أنه يعني إعادة النظر في النص المقدس ووضع فقه جديد طبقاً لأحكامه، أما أقدم أثر يُعتد به لهذا المصطلح، فقد جاء على لسان الفيلسوف والشاعر محمد إقبال حين أصدر كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام".
1. رؤية مؤسسة الأزهر: خلال كلمته الافتتاحية لـ"مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية"، في دورته الأولى، عام 2020م، عمل فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر على توضيح مفهوم "تجديد الخطاب الديني"، فقال:
"قانون التجدد أو التجديد هو قانون قرآني خالص، توقَّف عنده طويلاً كبار أئمة التراث الإسلامي، خصوصاً في تراثنا المعقول، واكتشفوا ضرورته لتطور السياسة والاجتماع، وأن الله وضع التجديد الديني شرطاً في كل تغيير إلى الأفضل، ووضع المسلمين، دون التجدد الديني، سيؤول إلى التدهور السريع والتغـير إلى الأسوأ في ميادين الحياة".
ثم قسّم أحكام الإسلام إلى قسمين، أحدهما ثابت لا يتغير لأنه صالح لكل زمان ومكان: "أحكام الدِّين الإسلامي تنقسم إلى ثوابت لا تتغير ولا تتجدد، وهي الأحكام قطعية الثبوت والدِّلالة، وسببُ ثباتها في وجه قانون التطور، الذي هو سُنة الله في خلقه، هي أنها قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذه الأحكام معظمها مما يدخل في باب العقائد والعبادات والأخلاق، وقليل منها يتعلق بنظام الأسرة ومجالات أخرى ضيقة".
والقسم الآخر، حسب شيخ الأزهر، قابل للتغير مع التزام أطر عامة: "الأحكام القابلة للتبدل والتغيير، وهي الأحكام المختصة بمجالات الحياة الإنسانية الأخرى، مثل الأحكام المدنيَّة والدستوريَّة والجنائيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، والسيرة الاجتماعية، والبيع والشراء، وأنظمة الحُكم والعلاقات الدوليَّة، والآداب العامَّة، وعادات الناس في المسكن والمأكل والملبس، ففي هذه المجالات ترد أحكام الشريعة الإسلاميَّة في صورة أطر كليّةٍ ومبادئ عامةٍ، تتَّسِع لتطبيقاتٍ عِدَّة وصيغٍ مختلفة، كلها مشروع ما دام يحقِّق مصلحة معتبرةً في الشَّرع والأخلاق".
2. رؤية دار الإفتاء المصرية: في الفتوى رقم "4666" لسنة 2004م، قال فضيلة الشيخ علي جمعة، مفتي الديار الأسبق، رداً على سؤال حول تجديد الخطاب الديني ومناهجه: "لا نفهم من تجديد الخطاب الديني إلا معنى واحداً هو العودة المباشرة إلى المصادر الأصلية التي ينطلق منها الخطاب الديني، وهي: القرآن الكريم، والسُّنة الصحيحة، وما تعارف عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم وأجمعوا عليه".
ثم أوضح المقصود من فكرة العودة إلى المصادر الأصلية بقوله: "ما يعني أن يُنقَّى الخطاب الديني مما لحقه في الحقب المتأخرة من التأثر بالعادات والتقاليد والابتعاد -قليلاً أو كثيراً- عن روح النصوص المقدسة ومقاصدها وغاياتها"؛ وضرب مثلاً بأوضاع المرأة، وكيف تعرضت لكثير من الغُبن، نتيجة لأفكار وأحكام لا علاقة لها بأصل الدين وصحيحه.
وأوضح، في السياق نفسه، أن هذه الشوائب التي علقت بالإسلام، ليست فقط نتيجة للعادات والتقاليد، وإنما بعضها ناتج عن التداخل مع ثقافات أخرى مخالفة للثقافة الإسلامية: "أيضاً تجديد الخطاب الديني يعني في ما يعنيه تنقيته من التأثر بالثقافات المخالفة، التي تتعاكس مع ثقافة الإسلام، وبخاصة في ما يتعلق بالإباحية والتفلت وما يُسَرَّبُ تحت مظلة حقوق الإنسان من القول بالشذوذ والإجهاض ونحوها، فكل هذه آفاتٌ ضارةٌ وقاتلةٌ للخطاب الديني الصحيح، وإذا كنا نرفض الخطاب الديني المتشدد والمتشائم والمهوِّل والمتطرف، فإننا بنفس القدر نرفض الخطاب الديني اللعوب والمفتوح والمختلط بعناصر شاذةٍ، لا يرضى عنها الإسلام من قريب أو بعيد، فكلا هذين الخطابين شاذٌّ ومنحرفٌ ومرفوضٌ وغريبٌ على هذه الأمة الوسط، وغريبٌ على دينها الوسط".
وهذا الرأي يحمل ظاهره ما يمكن فهم أنه دعوة سلفية من جانب، ويمكن فهمه من جانب آخر على أنه دعوة عروبية، بوصف الدين في صورته الأصيلة نزل في بلاد العرب، وأوائل المفسرين والفقهاء منهم؛ لكنه، في مجمله، لم يحدد تواريخ بعينها ليفهم منها بشكل قطعي هذا التوجه أو ذاك، خصوصاً أن جُل المُحدثين ليسوا بعرب، لكنهم تعلموا العربية وبرعوا فيها ودانوا بالفضل للعرب ولم يكونوا يوماً شعوبيين.
اجتهادات علماء الدين
تختلف رؤى بعض المتخصصين عما ذهبت إليه المؤسسات الدينية الرسمية، لفهم وتعريف مصطلح "تجديد الخطاب الديني"؛ إذ يوجد فريق يُفكك التراث الديني إلى إلهي مُقدس، وبشري قابل للنقد والتفكيك والتطوير.
1. الهلالي: خلال حوار مع مجلة صباح الخير، عام 2023، تحدث أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، الدكتور سعد الدين الهلالي، عن مفهومه "الشخصي" لتجديد الخطاب الديني، قائلاً: تجديد الخطاب الديني يراه كل إنسان من منظوره، ولا بد أن يعرف الناس أن الدين له نصوص وحي مقدسة، ومرويات عن سيدنا رسول الله، وهذه المرويات محل دراسة وفكر واجتهاد، وهناك شروح وتفسيرات لنصوص الوحي السماوي والأحاديث النبوية، وهناك أيضاً اجتهادات واستنباطات من ذلك كله.
يُضيف الهلالي: "أما النص المُوحَى به من السماء (القرآن الكريم)، فقد ثبت تواتراً عند المسلمين، وهو محل اجتهاد؛ لأن الله يأمرنا أن نتعقله ونجتهد فيه، والآيات في هذا السياق كثيرة وجميعها يؤكد أن القرآن الكريم نزل من أجل التدبر، والتفكر، والتعقل، وهو (يقصد التدبر بالطبع) عمل بشري لا يمكن أن يكون مساوياً للنص الإلهي، وتجديد هذا الفهم هو المطلوب".
ويؤكد في نفس السياق أن: "لذلك أقول للمسلم إذا قرأت القرآن وفهمت زاوية، أعد القراءة مرة أخرى على ضوء تطور العلم الإنساني، المتمثل في علم الفكر، والاجتماع، والطب، والفلك، والهندسة، والعلم الطبيعي... إلخ؛ فمن المحتمل بعد إعادة القراءة أن تصل إلى فهم آخر وتجد زاوية أخرى تليق بزمنك وحضارتك، ولا تتمسك بفهم السابقين وتعتبره "فهماً مقدساً" وتساوي بينه وبين النص السماوي، وهذا ما أسميه "تجديد فهم للنص" وهو المراد من تجديد الخطاب الديني".
وهو في ذلك يتفق مع رأي المؤسسة الدينية في ثبات النص المقدس، ويختلف معها في ثبات البند الثالث من تعريفهم "لأصل الدين"، الذي يجب العودة إليه، وهو "ما تعارف عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم وأجمعوا عليه".
2. آخرون مؤيدون: من جانبه قال الدكتور عبد التواب سيد، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ضمن تصريحاته لشبكة بي بي سي: "إن هذا المصطلح يعني مخاطبة الجمهور بلغة العصر، وتطبيق الأحكام الشرعية بما اصطلح عليه الناس الآن". وأضاف مُفَصِّلاً: "التجديد هو تجديد في اللغة والأسلوب، وتجديد في الفتوى، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وبما يناسب العصر؛ الأحكام لا تتغير، وإنما الفتوى أو طريقة تطبيق الأحكام هي ما يتغير".
وفي السياق نفسه قدم الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، ما يمكن اعتباره تلخيصاً لرأي هذا الجانب: "المصطلح الصحيح هو تجديد الخطاب الإسلامي، ومعناه تجديد فهم العلماء للقرآن والسنة الصحيحة". وأوضح في إيجاز: "التجديد يتناول فهم المستحدثات، والمستجدات والنوازل في قضايا معاصرة، سواء كانت فكرية أو عملية أو فقهية، لكنه لا يتناول أبداً القطعيات والمسلمات الشرعية".
ختاماً، يبدو أن هناك ما يمكن اعتبارهم فريقين واضحَي المعالم، فريق مؤسسي يعتبر آراء قدامى الفقهاء ضمن ثوابت الدين، خصوصاً ما حصل على شيء من الإجماع بينهم؛ وفريق غير مؤسسي ولا يعمل بشكل جماعي يرى أفراده أن الفقه والفتوى هي المستهدفة بالتجديد، ويمكن ذلك دون خوف، فهي رؤى بشرية لا قداسة لها.
وفي خضم هذا السجال المفتوح بين رجال الدين تظهر آراء أخرى من خارج المنظومة الدينية تماماً، أغلبها يدفع نحو نفس اتجاه فريق التجديد الفقهي، ولهؤلاء تحديداً يوجِّه جمهور المسلمين سهام التشكُّك، لكنه أصبح يوسِّع قاعدة تصويبه لتطال أسماء لعلماء كبار، إذا ورد عنهم أي رأي يبدو خالياً من التشدد، ويتم اتهام صاحبه بأنه جزء من المؤامرة على الإسلام، أو على الأقل متأثر بضغوطها.
فهل تطور الأمر في العقل الجمعي المسلم، متبنّي نظرية المؤامرة، إلى أن الإسلام دين متشدد بطبعه، وأي رأي مخالف لذلك هو مؤامرة عليه؟
وإذا كان هذا واقعاً بالفعل، فكيف يمكن تفكيك هذه الرؤية؟ والتساؤل الأهم: هل لا يزال هذا العقل الجمعي يحمل -وإن لم يعِ- بقايا المعركة مع الشعوبيين، وأصبح يتوجس من كل رأي مغاير لفهم الأوائل؟ والأخطر: هل يمكن أن يضع ذلك المسلمين على طريق تقديس أقوال وأفعال الصحابة، لمجرد خوفهم من الحاضر والمستقبل، أو خوفاً من أن أهل زمانهم يتآمرون عليهم؟
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.