الجبرية العقائدية:

ممارسة العنف ضد التيارات العقلانية في الغرب والشرق

مركز حوار الثقافات

14-09-2024

ربما لا يخلو التاريخ الإنساني من حوادث العنف ضد المفكرين والفلاسفة والأدباء، إلا أن الملمح الثابت وراء أعواد المشانق، أو كؤوس السم وغيرها من وسائل العقاب وأنماط التعذيب المختلفة، التي حصدت ضحاياها وطالت النخبة المتمردة في فترات تاريخية متباينة، يتمثل في كون سبب البطش بهؤلاء أنهم انحرفوا عن المنظومة القيمية والسياسية و"الباراديم" الثقافي، وتمردوا على تابوهات السلطة. 

لم تكن تهم "الكفر" أو "الإلحاد"، كما "الزندقة" و"التجديف"، سوى تعمية عن الأسباب الخفية والحقيقية؛ حيث إن الأفكار الجديدة التي هددت امتيازات بعض القوى المتسيدة المجال العام، كانت تحرضهم على المواجهة العنيفة وتراكم أجساداً متهالكة؛ ليظل نفوذهم قائماً من دون انحسار.

الإلحاد والهرطقة

الإلحاد والزندقة والهرطقة والتجديف، هي أسماء عدة ارتبطت في تاريخ الأديان والعقائد بالفئات والجماعات التي قدمت رؤى ومقاربات بعكس السائد، خصوصاً تلك التي تؤمن بها المؤسسة الدينية الرسمية. وفي غالب الأحايين لا يكون الإلحاد، مثلاً، نبذاً للألوهية أو مبدأ وجود قوة مطلقة في الكون، إنما هو خلاف في بعض الأمور اللاهوتية والعقائدية، داخل دين معين أو مذهب بحد ذاته وتقره المؤسسة والجماعة الدينية. 

في المسيحية سُجلت عقود من الاضطهاد الديني و"محاكم التفتيش" التي تأسست بقرار من البابا غريغوري التاسع، والذي دشن اللجنة الأولى التي انبثقت عنها محاكم التفتيش، بينما تولى رئاستها الأساقفة بتكليف بابوي حتى العام 1233 ميلادياً.

فيما كانت عقوبة "المهرطقين" هي الحرق بالنار، وغيرها من الممارسات العدوانية المتوحشة التي تناسب القرون الوسطى. يسجل التاريخ اسم الراهب الإسباني الدومينيكي توماس توريكويمادا باعتباره أول محقق عام في محاكم التفتيش.

ووصل عدد ضحايا محاكم التفتيش إلى نحو عشرة ملايين، بحسب الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه "مقالة في التسامح"، وقد كان رائداً من رواد التنوير ورافضاً للقمع الذي تعرض له كثيرون على يد الكنيسة ومحاكم التفتيش. كان إيمان فولتير متخففاً من أي حمولات قاسية أو إكراهات يفرضها رجال الدين. إذ إن فولتير الذي عرف عنه مقولة "إذا لم يكن الإله موجوداً، فيجب أن نخترعه، ولكن الطبيعة كلها تصرخ بأنه موجود فعلاً"، هو نفسه الذي قال بصريح العبارة ودون تردد أو توجس: "لقد كرهت الكهنة، وأنا الآن أبغضهم، وسأظل أبغضهم إلى يوم الحساب"، وفق ما وثق ول ديورانت في موسوعته "قصة الحضارة".

ربما هذا الغضب، الذي بلغ مداه، كان مرده حالة القمع العنيفة التي مارستها المحاكم الدينية وطالت الفيلسوف جيوردانو برونو، والذي بدأ حياته راهباً كاثوليكياً في إيطاليا، ثم انتقل إلى عالم الفلسفة وتوزع بين العلوم والمعارف الكثيرة، فانتهى به المطاف بأن أُحرق حياً بعد اتهامه بـ"الهرطقة"؛ نتيجة الأسباب ذاتها لمن سبقوه ومن سيلحقونه. فقد هاجم الجمود الديني والأفكار الكهنوتية السائدة والتقليدية، بل كان من مؤيدي أفكار كوبرنيكوس وكان من المتأثرين بفلسفة ابن رشد وابن سينا والفلسفة اليونانية.

العنف الديني

سيرة الموت والعنف الديني أخذت في طريقها المصلح الديني جان هوس، والمصلح الديني توماس كرامر الذي ترجم الإنجيل للغة الإنجليزية. ويمكن القول إن الإلحاد لم يكن من الناحية الاسمية والاصطلاحية شائعاً. وفق رمسيس عوض في كتابه: "الإلحاد في الغرب"، والذي يرى أنه جرى استحداثه في القرن السادس عشر، رغم وجود حركات إلحادية في فترة القرون الوسطى. ثم إبان تلك الفترة كانت الكنيسة تصف الإلحاد بأنه الخروج على الفضيلة والدين. وبحسب الفهم الكاثوليكي للهرطقة، فإنها رأي ديني مدان كنسياً ومنافٍ للإيمان الكاثوليكي، أو خطأ إرادي ومتشبث به مع مبدأ إيماني موحى به، كما ورد في كتاب "الهرطقة في المسيحية تاريخ البدع الدينية" لـ"ج. ويلتر".

وفي دراسته المعنونة بـ"العلماء المضطهدون وأثره في تطور العلمنة الشمولية"، يقول الباحث العراقي عامر الوائلي، إن هناك فروقات في المعنى بين الهرطقة والبدعة؛ حيث إن الانتساب إلى البدع الدينية يكون عند الاستمرار في الخطيئة، ثم الانفصال التام والمكشوف عن الكنيسة مع عدد من الأشخاص المؤمنين مثله بالأفكار الخطأ. فالإنسان وحده لا يصنع بدعة. وهنا، يمكن للمرء أن يؤمن بهرطقة من دون الحاجة لجماعة يَضحى عضواً فيها أو زعيماً ومؤسساً لها. وفي هذا السياق يقول الوائلي إن الأصولية المسيحية قد تشكلت وأسست موقفها تجاه المعارضين لخطها الرسمي الإيماني، سواء كانوا جماعات "مبتدعة" أو أفراداً "مهرطقين". 

من بين الشخصيات التاريخية التي تعرضت للقمع إتيان دوليه، وقد أحرق لأنه أنكر خلود الروح، وغاليليو الذي وقع في قبضة محاكم التفتيش، إثر موقفه العلمي المدافع عن نظرية كوبرنيكوس بخصوص مركزية الشمس وحركة الأرض. 

لم تتوقف محاكم التفتيش التي دهست المخالفين والمهرطقين، بناءً على أحكامها، حتى نهايات القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. فقد تعرض شاب فرنسي من طبقة النبلاء هو جان فرانسو لابار لعنف هذه المحكمة وبشاعة التعذيب في تلك الفترة المتوحشة. خلدت ذكراه بوضع تمثال له على مقربة من كنيسة "قلب يسوع الأقدس"، فوق قمة تلة تحمل اسم حي مونتمارتر بباريس. وكانت إدانته بمجموعة تهم منها عدم تقديم التحية لموكب ديني كاثوليكي وكسر الصليب، فتم قطع يده ثم مزقوا لسانه وأحرقوا جسده، ولم يكد يتجاوز "19" ربيعاً. وهاجم فولتير هذه الحادثة ووثقها تشارلز ديكنز في روايته "قصة مدينتين".

التاريخ الإسلامي 

وفي التاريخ الإسلامي، ثمة حوادث مماثلة، طالت فلاسفة وفقهاء وعلماء فضلاً عن الأدباء، الذين حاولوا تقديم رؤى ومقاربات مغايرة للسائد في الفهم الديني. وعبر محاولاتهم التأويلية التي تضمنت انفتاحاً تنويرياً أو تثويرياً بلغة العصر، لم يكن مضموناً في دربهم الصعب التسامح أو المرونة، بل نالهم القمع والسجن والقتل. 

وسيرة هؤلاء ممتدة، وربما ليس هناك أصعب أو أكثر فداحة من أن يترافق قتل شخص على خلفية أفكاره وأن تتعرض مؤلفاته إلى المصير ذاته، فلا يبقى منها سوى شذرات متشظية بين كتب خصومه؛ الأمر الذي ينطبق على ما جرى مع ابن الراوندي. وهذا الفيلسوف الأكثر شهرة في القرن الثالث هجرياً، اتهم بالإلحاد، وقد بدأ حياته معتزلياً ثم أضحى خصماً لهم. ويمكن لهذه الخصومة فائدة تتمثل في بقاء هامش من أفكاره حاضراً في ما وثقه الخياط المعتزلي، في الكتاب الذي خصصه لمجادلته والرد عليه. 

وكان كتابه "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد"، الوثيقة التي اعتمد عليها مفكرون معاصرون لمعرفة المحطات الفكرية التي تناوب عليها ابن الراوندي وفحص أفكاره، مثل عبد الرحمن بدوي، حيث حفلت حياته -ابن الرواندي- بتنويعة غنية، حتى وإن حملت درجة من القلق والتردد، في اعتناق المذهب الشيعي ثم عرج على المعتزلة، وانتهى به المطاف إلى هذا الفضاء الرمادي الذي جعل إيمانه في دائرة غير واضحة، يحفها الشك الذي يباعد بينه وبين الإيمان والاستقرار. 

 إنكار النبوة

ولئن تبدو صفة "الإلحاد" تهمة جاهزة تعني في الحضارة الغربية إنكاراً تاماً للألوهية أو القوة المطلقة، فإن الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي في مؤلفه المهم "تاريخ الإلحاد في الإسلام"، يوضح في مقدمته النظرية الفارق بين الإلحاد في الغرب والحضارة العربية، ففي الأخيرة هي تعني إنكار "النبوة والأنبياء". 

وبالرجوع إلى كتاب "الزمرد" لابن الراوندي، الذي اعتمد عليه الخياط المعتزلي في كتابه، الذي ظهر وطبع منتصف عشرينيات القرن الماضي، نجد مساءلة ابن الراوندي لفكرة النبوة في الإسلام كما في الأديان "التوحيدية/الإبراهيمية". ورفض ابن الراوندي للنبوة تبدو في نقطة مركزية، تتصل في الوظيفة التي يؤديها النبي باعتباره وسيطاً لإثبات الألوهية، ويرى أن العقل لديه الكيفية الكاملة والأهلية النهائية لترجيح وجود الله؛ حيث يقول: "إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وإنه هو الذي يُعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب"، ويكمل حديثه موضحاً: "فإن كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته؛ إذ قد غنينا بما في العقل عنه".

ربما تبدو في بعض أفكار ابن الراوندي شطحات تخدش الإيمان الديني، لكن جانباً من أفكاره كانت تسعى إلى عقلنة الدين، وتحديداً في ما يخص محاولات البعض الترويج للجوانب السحرية، أو الاعتماد على الخوارق والمعجزات، التي تشل الإرادة الإنسانية وتستهدف فرض الجبرية الدينية. بالتالي، اصطف مع آخرين كانوا بصدد وضع العقل أولوية على النقل، وجعله المرجعية التي يتم الاستناد لها في الوصول للمعرفة والحقيقة، حتى يَضحى المرء مسؤولاً عن إيمانه وقادراً على تحمل تبعات خياراته بالحياة؛ فضلاً عن رفضه مبدأ الجبرية، والطاعة قسراً أو بالإكراه. ونزعة تمجيد العقل ظهرت عند ابن المقفع والرازي وابن سينا. 

ظاهرة التكفير

في التاريخ المعاصر امتدت ظاهرة التكفير مع محاولات كُتابٍ ومفكرين التنويرَ والتجديدَ الديني، أو بالأحرى تمجيدَ العقل، وأنسنةَ الدين؛ ومنهم الفيلسوف والمفكر الجزائري محمد أركون. وثمة ملاحظة إجرائية يمكن أخذها بعين الاعتبار، وهي أن الشخصيات التي ارتبطت بهذا الانفتاح كانوا من ضمن الحركات الشعوبية، تاريخياً، كما ظهر تيار التحديث مع الانفتاح على القوميات المختلفة والحضارة اليونانية. 

وقد ينطبق ذلك مع أركون الذي هو من عائلة أمازيغية، ثم عاش في فرنسا ودفن بالمغرب. في الخمسينيات، لم يكتف بالتحاقه بكلية الآدب في جامعة الجزائر فدرس الفلسفة والقانون والجغرافيا، وبعدها التحق بجامعة السوربون بتوصية من المستشرق لويس ماسينيون، ونال الدكتوراة وكان أستاذاً بالجامعة الفرنسية المرموقة متخصصاً في الدراسات الإسلامية.

من أبرز مؤلفاته: "تاريخية الفكر العربي الإسلامي"، و"الفكر الإسلامي نقد واجتهاد" و"الإسلام بين الأمس والغد"، و"الفكر الإسلامي قراءة علمية"، و"الإسلام والأخلاق والسياسة"، و"نزعة الأنسنة في الفكر العربي"، و"من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي". 

كان أركون عقلاً نقدياً يعتمد على المناهج الحديثة في قراءة النص الديني ونقد التراث. اعتمد المنهج التاريخي والمناهج الألسنية والأركيولوجية، التي تحرر العقل العربي من قيود التخلف واعتماد أفكار السابقين من دون مراجعتها ونقدها، وأحياناً رفضها وتطويرها. فكان أن انتقد في كتابه "نحو نقد العقل الإسلامي"، المسارات التاريخية التي أدت إلى جمود وانسداد العقل الإسلامي، وأسباب وعوامل توقف الاجتهاد والتراجع عن الانفتاح والإيمان بالتعددية والتنوع. فألمح إلى دور الإسلام السياسي في الوقت المعاصر الذي يحاول الانحراف بالعقل الإسلامي، الذي "كان تعددياً في البداية وجدلياً وتفاعلياً"؛ بل، وسمح أحياناً بـ"الاختلاف والتنوع والحرية". هذا الإسلام المسيس أو المؤدلج يريد العودة إلى المدونات القديمة والكلاسيكية في التاريخ الإسلامي، ويأخذ منها بشكل انتقائي قائم على الحذف والاختيار ما يخدم رؤيته ومصالحه، ويخدم العقل التواكلي غير النقدي وغير المبدع.

هذا العقل غير النقدي، الذي يعتمد على النقل واجترار أو تكرار الماضي، وأقوال السلف، فقط، وفق أركون، يؤدي إلى القطيعة مع النزعة الإنسانية العقلانية، التي سادت فترة في الإسلام، وقطيعة أخرى مع المنجز الحضاري الأوربي والحداثة، منذ القرن السادس عشر والمستمرة حتى اليوم. 

ختاماً، روج محمد أركون إلى مفهوم "الأنسنة"، وهي رؤيته الاستراتيجية النقدية، التي تبناها لرد الاعتبار للعقل والإنسان بعد تهميش كل منهما، وعزلهما، ورفض مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية. ففي كتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي"، انتقد السلطة الدينية (الكهنوتية/اللاهوتية)، التي حلت محل الله وأصبحت ناطقة بلسان السماء، وقررت شكلاً من الإسلام غارقاً في الأصولية والانغلاق والطقوس الشعائرية، من دون مضمون إيماني واعٍ وعقلاني. 

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة