التدين الشعبي:

مساهمة المتخيل الديني في قبول الآخر

مركز حوار الثقافات

02-09-2024

في ظل محاولة تسييد نمط واحد من أنماط التدين، ومحاولة السيطرة على التعدد الإنساني في تلقي الإيمان وممارسته من دون إكراهات، مادية أو معنوية، وبناء صيغة في علاقته مع المطلق والعوالم المفارقة، بمرونة وطاعة ليست فيها ضغوطات أو وسائط عنيفة؛ يأتي “التدين الشعبي” ليحتمي بالهامش، ويواصل حفر مسارات آمنة يتفادى بها الملاحقات العنيفة والخشنة من قبل العقل الأصولي، الذي يطاوله بـ”التكفير” في أحايين كثيرة، ووصم أفراده بعبارات تجعلهم على النقيض من الصوابية الدينية.

التدين الشعبي

الشفاعة والتبرك بالقديسين أو الأولياء تكاد أن تكون محايثة للوعي الديني. ففي الأديان كافة تقريباً، لا سيما الإبراهيمية، يسعى المرء إلى أنسنة الدين، ومحاولة تقريب المقدس في صور وهيئات جمالية تجعله متداولاً وبسيطاً ومرناً؛ أي في مجاله المرئي الحسي والملموس، بحيث يتماس ووعيه البسيط ولغته التي لا علاقة لها بالحمولات الفلسفية والفقهية والمعرفية الثقيلة.

بمعنى آخر، محاولة التعاطي معه بشكل مباشر ويومي بعيداً عن تعقيدات ومقاربات الفلاسفة والمفكرين، وحتى رجالات الدين، وارتكازاتهم المذهبية؛ فالأغلبية من المواطنين يسعون بإلحاح دائماً إلى بناء صيغة مرنة، في ظل تعقيدات الحياة المادية مع المعطى الإيماني، للاستعانة به على لملمة شتاتهم الروحي، واللجوء لله لتخفيف أعبائهم، وقضاء حوائجهم.. وذلك يسمى في الأنثربولوجيا الدينية بـ”التدين الشعبي”.

ولذلك، نجد في الواقع المعاش والتفاصيل اليومية بما فيها من أزمات وجودية، إنسانية، وهموم معيشية مختلفة، مادية كانت أو روحية، إلحاحاً لملء الفراغ الروحي الغامض والبعيد من خلال وسطاء وشفعاء، يمكن الحديث معهم من خلال المتخيل الديني الشعبي، الذي يستطيع المرء تصورهم على هيئات قريبة منه، ولديهم الطاقة السحرية الروحية للوصول بهمومهم إلى الله، والالتجاء لهم لتحقيق غاياتهم وإحداث انفراجة. بل إن هذا التعاطي الديني من خلال الوسطاء والشفعاء يكاد أن يصنع حالة تتجاوز، أو بالأحرى تخفف من، القيود والحواجز الدينية والطائفية.

ويمكن القول إن أنماط التدين الشعبي، لها حضور قوي، وتتفوق حتى على الأنماط التي تمارسها النخب. هذا ما نلمسه في الممارسات اليومية لعامة الناس، وهي الممارسات الشعبية العفوية، التي تحلق فوق مستوى النسخة الرسمية للدين، التي عادة ما تكون محافظة وأصولية، أو تحكمها ثوابت وتتأثر بهواجس ومخاوف عديدة. بل إن الممارسات الدينية العفوية لفئات اجتماعية عديدة، تعكس مقاومة للأنماط التي تفرضها القوى الأصولية والسلفية والجهادية، التي تواصل تكفيرها لبعض هذه الممارسات، مثل: اللجوء للعتبات المقدسة، وحب الصحابة والأولياء والقديسين.

فعيد البتول، مثلاً، الذي يبدأ في السابع من أغسطس، ويستمر لأسبوعين متواصلين، له مكانة مقدسة في المجتمعات العربية، كما تتشارك الأسر المسلمة مع المسيحية في موالد “العدرا” بصيامه، ويطلبون شفاعتها ويرفعون عندها حاجتهم. وفي المواويل، يوثق الراوي الشعبي الحالة النفسية والروحية التي تجمع البشر كافة، وتتجاوز معها الخلافات الضيقة والجدالات اللاهوتية فيردد: “بشرى لكل البشر.. إسلام مع أنصار”.

كما أن “ابن العسال”، أحد أهم وأشعر المؤرخين القبط، في كتابه: “المجمع الصفوي”، ينقل ملاحظته بأن هناك اهتماماً لافتاً بصيام “العذراء” منذ القدم، حيث “تقام النهضات الروحية في الكنائس، خاصة التي تحمل اسم العذراء، بالإضافة إلى تدشين برنامج روحي لعظات، وقداسات، ومسابقات دينية، خلال الـ15 يوماً، تنتهي باحتفال ضخم في الليلة الأخيرة”.

التكيف التاريخي

التدين الشعبي يرجع إلى مرحلة ما قبل الدين، من حيث تماسها مع طقوس ديانات قديمة ترسخت منطلقاتها في اللاوعي الجمعي، وتتجلى ممارساتها في مظاهر الحياة اليومية، وهو ما يطرح أسئلة وقضايا مثيرة تحمل دلالات كاشفة عن علاقات متشابكة ومعقدة في البنى الدينية، والتي تتقاطع مع الوجود الاجتماعي منذ لحظة التأسيس وحتى اليوم؛ إذ إن الموروث الديني في العقل الشعبي يخوض صراعاً داخلياً طول الوقت بين طبيعة النص الذي تفرضه المؤسسة الدينية تاريخياً، وتحاول جعله سلطة أوامر ونواهي، وما على الأتباع سوى الطاعة والإذعان، وبين احتياجه -أي العقل الشعبي- للتفاعل مع المعطى الديني والمقدس (الله)، بشكل قريب من وعيه، ومن دون تعالٍ أو قسوة تضاعف من أعباء الحياة عليه؛ فيسعى، هذا العقل، إلى التحايل والمواءمة عبر أنماط من التدين التي يوفرها له مزاجه الشعبي، أو عفويته، فيلجأ إلى قديس أو ولي من الصالحين يحدثه بما يعاني، أو المكبوت في روحه يتمثل من خلاله الروح الكلية لله بطريقة بسيطة سهلة مرنة، بعيداً عن تعقيدات الفلاسفة والفقهاء.

يمثل هذا النوع من التدين نتيجة لتكيف تاريخي بنائي متبادل، بين الرسالة الدينية بما فيها من عقائد وعبادات ومعاملات وطقوس من ناحية، والهياكل والأبنية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية للمجتمع من ناحية أخرى؛ وكان من نتيجة هذا التكيف، جملة من الظواهر الاجتماعية البشرية المتغيرة، حيث نكون في هذا النمط من التدين بصدد الدين كما يُعاش وكما يُمارسه الناس في حياتهم اليومية، فهو تدين يصدر عن الظروف الحياتية التي يوجد فيها الأفراد والجماعات، وفق عبد الله شلبي في كتابه: “التدين الشعبي لفقراء الحضر”.

المؤرخ المغربي حاييم الزعفراني يقول إن هناك درجة من الارتباط الروحي بين المسلمين واليهود، ويصفه بـ”التثاقف” الإيماني في ممارسة التدين الشعبي، واللجوء للمزارات الدينية والحديث مع الشفعاء. ويرصد في كتابه: “يهود المغرب والأندلس”، أن “التلاحم بين المسلمين واليهود لم يختزل في العادات والتقاليد المشتركة، المرتبطة بالموسيقى أو عادات الأكل والشرب واللباس، بل تخطتها إلى ما هو إيماني عقائدي وروحي، ويتصل بالممارسة السحرية وكتابة النصوص مثل الرقية التي بمقدورها طرد الشرور والحصول على الأمن والبركة”.

الروح الإيمانية

يمكن القول إن الدين ارتبط في الأصل بالبسطاء والمهمشين، قبل أن يتحول إلى أن يكون في حيازة جماعات ومؤسسات تمارس من خلاله الضبط الاجتماعي والإيماني، الذي أحياناً يصل إلى حد القمع وفرض إكراهات عديدة. وبالتالي، فإن البحث عن الوسطاء والشفعاء هو احتجاج على نسخ دينية مؤدلجة ومُسيسة، تصنع حالة استقطاب طائفي ومذهبي وديني بين البشر؛ بينما هم يبحثون عن الطمأنينة والسلام.

وبينما تبدو الخطابات الطائفية متشددة، في صنع حواجز بين البشر وبعضهم البعض، وتراكم الكراهية والأجساد المتهالكة، وتصنع ما أسماه الأديب اللبناني أمين معلوف بـ”الهويات القاتلة”، فإن التدين الشعبي يستعيد النسخة الدينية العفوية في بداياتها ولحظتها الأولى، والتي يعبر عن طاقتها الإيجابية المتصوف والفيلسوف ابن عربي الذي ردد في أبياته الشعرية “دين الحب”، بأن قلبه منفتح على العالم اللانهائي، والذي يتسع لـ”الدير” و”الكعبة” و”بيت الأوثان” و”مرعى الغزلان”.

هذا المعنى ذاته ما يتردد من خلال المداحين في الموالد الصوفية، كما جاء وفق مشاهدات صاحب كتاب “الموالد والتصوف بمصر”، نيكولاس بيخماس، والذي كان سفيراً لهولندا بمصر؛ وهي المشاهدات التي تُعبر لنا عن “الروح الإيمانية” الكلية التي لا يجمعها سوى طلب السكينة والسلام، بينما تتجاوز أي مرجعية تسبب الانقسام والتشظي على أساس الهوية الطائفية والدينية، وبما يترتب عليه من الفوضى والعنف.

وتبدو هذه الأبيات، التي رددها المداحون، ووثقها بيخمان، لافتة؛ وهي تقول: “تعالوا يا أهل البلا.. نشكى حالنا بعضنا.. نقعد مع بعضنا.. ما دام حالكم وافق حالنا.. يا رب ورينا الطريق”. هذه الأبيات، أو تلك التي تنادي على الجماعات المهمومة، حتى تعتصم برب واحد، ليكون هذا نشيدها، نشيد المعذبين في الأرض، لا تطلب سوى طريق النجاة والخلاص الذي هو الهدى الذي يبحث عنه أي إنسان مهما كانت مرجعيته الدينية.

النسق الأسطوري

التدين الشعبي، في المحصلة، هو ذلك النمط الذي يهتم برصد العلامات والرموز، متجاوزاً ما يحمله النص الأصولي من إكراهات وأيديولوجيات؛ كما أن نطاق اشتغال التدين الشعبي ومساحة عمله وممارساته تبدو أكثر اتساعاً وقبولاً للآخر، كما يمتلك تلك القدرة على المراوغة والتعايش والاستمرارية.

ويقول المفكر المصري، عبد الجواد يس، إن التدين الشعبي يظهر قادراً على استيعاب ما يمكن تسميته “بثقافة الاجتماع الخام”، وهي الثقافة العامة التي تصدر عن منابع الوعي والتفكير الاعتيادية، أو هي الثقافة كمجال كلي مقابل للمجال الديني. دائماً، ومنذ البداية، كان ثمة فضاء اجتماعي لا يتطابق مع الفضاء الديني؛ لكن وعي الفضاء الاجتماعي بذاته مقابل الفضاء الديني، لم يكن حاضراً بنفس الدرجة من الوضوح لفترات تاريخية طويلة سابقة على المراحل الحديثة؛ حيث ظل الدين يفرض هيمنته الواسعة على المجتمع، عبر التحالف المتواصل بين المؤسسة الدينية والدولة، خصوصاً بعد تأميمه لوظيفة القانون وتحوله إلى نظام شمولي يحتوي على شريعة قابضة.

ومن هذه الزاوية أيضاً، يبدو التدين الشعبي أقدر على التسامح مع الآخر الديني، من موقع المشاركة التي يفرضها الواقع، قياساً إلى المدونة الفقهية التي تنطلق من أرضية نظرية حصرية، والتي تكونت بامتداد عصر التدين في سياق اجتماعي أحادي على وقع الانتصار السياسي للدولة.

ويمارس الفعل الشعبي قدراته التجاوزية، حيال المدونة الرسمية، من خلال “عمليات” متنوعة من الالتفاف، أو الانتقاء، أو التحوير، أو التبرير، أو الترحيل، أو التجميع بقصد الموازنة بين فكرة الإلزام التي تطرحها المدونة، وحاجاته الطبيعية التي تحركها الغرائز وضرورات الاجتماع الواقعية، وفق صاحب: “اللاهوت”.

ويردف: “يمكن قراءة العلاقة بين التدين الشعبي الاعتيادي والتدين الأصولي المتطرف كعلاقة نفور متبادل في صميمها، رغم أنها ملتبسة من بعض الزوايا. تنظر الأصولية إجمالاً إلى الممارسات الشعبية كنمط تدين فج متساهل، أو منحرف عن النموذج المكتوب، وتابع دائماً للسلطة العلمانية الخارجة غالباً عن الدين. فيما يشعر الشارع الاعتيادي بالطبيعة الأحادية المتزمتة للأصولية، وإيقاعها التكليفي الخشن النافر من العفوية والتعدد (تفترض الأصولية إمكانية إلغاء الفجوة الطبيعية بين المدونة والممارسات الاعتيادية)، بوجه عام، ورغم تسرب بعض التصورات المغلقة من ثقافة المدونة بفعل التفاقم الأصولي، لا تزال الممارسات الشعبية في مجملها أوسع انفتاحاً على المضامين الدنيوية، أو أكثر تصالحاً مع فكرة الحياة من أدبيات المدونة التقليدية المنحدرة من تراث ديني متشائم بطبعه”.

ومن ثم، انتشرت الحكاية الشعبية حول كرامات الأولياء، وهي حكاية ذات بنية بسيطة، تمتزج بالواقع الحقيقي في أعمق أعماقه، تحكى عن غرائب عالم الواقع، وغرائب العالم الآخر؛ وهي، في الوقت نفسه، تود أن تفسر الحقيقة الدنيوية، حتى وإن كانت الأسطورة أحد أهم معطياتها، لكنها تبقى جادة في طابعها تستلهم من الواقع والدين وكل معطيات العالم الباطني وجودها.

وعليه، حافظ “النسق الأسطوري” على حضوره قروناً طويلة، وتمكن من التعايش مع المعتقدات الدينية بشتى أشكالها، لما لها -أي الأسطورة- من قدرة إيحائية متجددة، حيث واصل العقل الجمعي الشعبي خلق أساطير جديدة، تمنحه طاقة إيحائية رمزية على الدوام، لتتجلى الخرافة بحكم كونها ظاهرة جماعية من نتاج المخيال المشترك للجماعة، كما يقول الدكتور سامح إسماعيل في بحث: “اقتصاديات التدين الشعبي”.

أما الباحث في التراث والفولكلور، عصام ستاتي، يلفت إلى أن القديسين في المسيحيين، وأولياء الله الصالحين في الإسلام، في غالبيتهم بينهم مشترك رئيسي وهو أن جميعهم شهداء، الأمر الذي له اعتبار مهم في المخيلة الشعبية بخصوص النظر إلى معنى البطولة والتضحية والفداء، التي تحملها هذه الشخصيات ورمزيتها وسيرتهم.

ومن هنا، تحوط الشخصيات عدة أساطير كمثل أن الأجساد لا تتلف. ويقول إن كل شخصية عند زيارتها، في ما يعرف بـ”الموالد” أو “الأعياد”، مرتبطة بشفاعة وكرامة معينة. فمولد السيدة مريم العذراء يحقق الشفاء من العماء مثلاً. ومن لا يرى بعينه سيرى ببصيرته كما يلجأ لها السيدات لطلب الإنجاب، وهو ما يتصل بالسيدة زينب المعروفة بـ”أم العجائز”، وفق ما جاء في كتابه: “مقدمة في الفلكلور القبطي”.

وختاماً، يأتي “التدين الشعبي” ليواصل حفر مسارات آمنة يتفادى بها الملاحقات العنيفة من قبل العقل الأصولي، الذي يطاوله بـ”التكفير” في أحايين كثيرة. بل، ويمكن القول إن أنماط التدين الشعبي، لها حضور قوي، وتتفوق حتى على الأنماط التي تمارسها النخب. هذا ما نلمسه في الممارسات اليومية لعامة الناس، وهي الممارسات الشعبية العفوية، التي تحلق فوق مستوى النسخة الرسمية للدين.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة