إخفاقات الوعي:

الحداثة العقلية بديلاً عن العنف المذهبي

مركز حوار الثقافات

14-09-2024

في كتابه "إخفاقات الوعي الديني.. حوار في تداعيات النكوص الحضاري"، ينطلق المفكر العراقي ماجد الغرباوي إلى الإقرار بتفوق الحضارة الغربية، مع صعوبة محاولات اللحاق بها؛ بسبب المعوقات التي تَحول دون النهضة الإسلامية.

ويوضح المؤلف الأسباب التي أدت إلى هذه الإخفاقات في الوعي الإسلامي، التي تمثَّل أهمها في عدم التفرقة بين الدين والتراث، إضافة إلى بنية الوعي الإسلامي التي تأسست بسبب الصراعات السياسية التي بدأت بعد وفاة النبي، واستغلال النص القرآني لتحقيق أهداف خاصة، وسيادة المنظومة الأبوية وقيم القبيلة، وغياب التسامح والاعتراف بالآخر وقمع المرأة واضطهادها، حسب قوله، ليوضح بعد ذلك طرق التعاطي وكيفية التعامل مع الأسباب السابقة، للوصول إلى حداثة دينية.

نموذج حضاري

يُقر "الغرباوي" بتفوق الحضارة الغربية على الحضارة العربية، في ميادين الحياة العلمية والاقتصادية والعسكرية، بعلومها الحديثة والإنسانية واختراعاتها التقنية؛ الأمر الذي كان من نتيجته الاستعمار الغربي للعالم العربي، حسب قوله.

ويطالب "المؤلف" العالم الإسلامي بأهمية إيجاد نموذج حضاري خاص به، حتى يتمكن من استكمال مشروعه النهضوي، على أن ينطلق هذا المشروع من الهوية العربية الإسلامية الخاصة، حتى يصل إلى مصاف الحضارات العالمية الحالية المتعددة غرباً وشرقاً، مُشدداً على أهمية التحرر الفكري وعدم الانغلاق الحضاري، والانفتاح العقلي على الآخر، للاستعانة بإنجازاته الحضارية والثقافية والعملية والأدبية؛ مؤكداً أنه من سبل التحرر والانفتاح على الحضارة الغربية تفعيل حركة الترجمة، التي كانت سبباً في ازدهار الحضارة العباسية، حسب قوله.

 تأثيرات متبادلة

يرفض الكاتب محاولات الاعتذار عن التخلف الحضاري بما وصفه "الاستعلاء التراثي"، عبر نشر الرأي القائل بأن الحضارة الغربية استفادت من التراث العلمي الإسلامي، الذي كان سبباً في نشأتها، فيرى أن هذا الرأي ما هو إلا محاولة تبرير للتأخر الحضاري والتخلف الذي يعاني منه العالم الإسلام، حسب قوله.

لقد استفاد العالم الإسلامي في علومه من الحضارة اليونانية، ثم استفاد بعد ذلك الغرب من علوم المسلمين مثل الكيمياء والفلك والجبر وغيرها، فلا يجب أن يكون هذا الأمر مصدراً للتفاخر في العصر الحالي، لا سيما مع الوضع المتأخر الذي يعاني منه العالم الإسلامي، وفق "الغرباوي".

ويذهب "المؤلف" إلى أن الحضارات تستفيد من بعضها، حتى في هجرة العلماء من حضارة إلى أخرى؛ فالعلماء في العالم الإسلامي الذين يعانون حالة تضييق، يلجأ بعضهم إلى الهجرة إلى الدول الغربية، وهو ما كان يحدث في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية؛ إذ كان العالم الإسلامي يستقطب العلماء من حضارات أخرى، حسب قوله.

 معوقات التواصل

يرى المؤلف وجود ضرورة ملحة لجسور تواصل بين الحضارتين الإسلامية والغربية، لكن معوقات عدة تقف حائلاً بين هذا التواصل الحيوي والضروري للحضارتين، حسب قوله، مثل:

1- الأصولية والتكفير: انتشار الأفكار الأصولية والخطاب التكفيري الذي تمكنت الحركات الإسلامية المتطرفة من نشره، هو ما تسبب في ظهور حالة من الخوف والترقب لدى الطرف الآخر.

2- صراع الحضارات: سيادة نظريات صراع الحضارات لصمويل هنتنجتون في الحضارة الغربية، التي تفرض النظر إلى الحضارة الإسلامية على أنها عدو، إضافة إلى انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب.

لذا فإن الأرض ليست مهيأة لهذا التواصل الحيوي بين الحضارتين، بسبب المتطرفين في العالم الإسلامي والعنصريين في الحضارة الغربية، حسب قوله.

 القرآن والحضارة

يرى "الغرباوي" أن القرآن الكريم دعا إلى بناء الحضارة، وحض عليها وحرص على جوانبها المادية والروحية، وشدد على أهمية استخدام العقل في بناء هذه الحضارة، الأمر الذي تجاهله المسلمون في معظم العصور التراثية، ما أدى إلى تخلفهم حضارياً.

وقال في كتابه إن القرآن شدد على ضرورة اعتصام المسلمين بحبل الله، والتعارف في ما بينهم ومع غيرهم؛ وكان الأمر كذلك في بداية عهد الإسلام وفي عهد النبي، لكن بعد وفاته انتقل الأمر إلى نقيضه، فتعادى المسلمون في ما بينهم، وانتشرت فيهم الطائفية والتطرف والعنف وإقصاء الآخر، وتسبب التراث في تفريق المسلمين، الأمر الذي كان له تأثير سلبي في حضارتهم، حسب "الغرباوي".

 أسباب التراجع

يفسر "المؤلف" التراجع الحضاري والتخلف الذي يعاني منه العالم الإسلامي، بوجود:

1- صراعات سياسية: الصراعات السياسية التي ظهرت عقب وفاة النبي؛ الأمر الذي أشعل خلافاً على السلطة، بسبب غياب نص صريح عن صفات الخليفة؛ الأمر الذي أشعل صراعاً سياسياً تعدى إلى أشكال طائفية ومذهبية، حسب قوله.

2- مرونة النص القرآني: استغلال المسلمين مرونة النص القرآني، الذي يُعد مصدر المنظومة التشريعية والقيمية، التي تعددت بسبب الصراعات السياسة والنزاع حول السلطة؛ وهو الصراع الذي امتد من العصر الأموي إلى العصر العباسي، فأنتج أفكاراً سلبية سادت المجتمع، مثل التكفير وقمع الآخر، وفقاً للغرباوي.

3- سيادة للنظام الأبوي: حيث ترسخت قيم القبيلة والعشيرة في التراث الإسلامي والعقل السائد، ما أدى إلى سيادة النظام الأبوي وضيق الأفق العقلي والاجتماعي، حسب المؤلف.

4- تقديس الأفكار الموروثة: معاداة الآخر ورفض الاعتراف به عقلياً أو دينياً، ما أوجد فُرقة وتمزق دائمين في الحضارة الإسلامية، وتسبب في انتشار تقديس الأفكار الموروثة، وألغى إمكانية النقد الذاتي الداخلي، حسب "الغرباوي".

5- قمع للمرأة وتهميشها: سيادة الذكورية في المجتمع، التي أدت إلى تجاهل دور المرأة وقمعها وتهمشيها، وتقليل فاعلياتها في أدوار هامة مثل الثقافة والتربية، مما عطل دورها المجتمعي بشكل كامل، وأدى إلى غياب عنصر فاعل في التراث الإسلامي، حسب قوله.

 صعوبات النهضة

يفسر الغرباوي عدم قدرة العالم الإسلامي على تنفيذ مشروع النهضة، واللحاق بركب الحضارة، إلى وجود اتجاهات ثلاثة، هي:

أولاً، اتجاه الانبهار الحضاري: حالة من الانبهار بالحضارة الغربية والأخذ عنها في كل ما تقول به، لدرجة التقليد الأعمى والذوبان فيها، وهذا الاتجاه عند "الغرباوي" لا يخلق حضارة مستقلة، بل يخلق تبعية للحضارة الغربية؛ لأنه لا يجب الأخذ بقيم غريبة عن الهوية الخاصة بنا، حسب قوله.

ثانياً، اتجاه الانكفاء التراثي: عدائية منتشرة للحضارة الغربية ومنجزاتها دون تفريق، ودون محاولة الاستعانة بآلياتها، وبدل ذلك يحدث انكفاء على التراث ودعوات لإحيائه دون النظر إلى إشكالياته التي كانت سبباً في التخلف الحضاري، وفق المؤلف.

ثالثاً، اتجاه التوفيق والمصالحة: جانب توفيقي يحاول أخذ ما يصلح من الحضارة الغربية، ويحاول عمل مصالحة بين الدين والعلم، فيأخذ بالأسباب الروحية والأسباب المادية في وقت واحد، وهو أقرب الاتجاهات الثلاثة إلى الصواب حسب "الغرباوي".

ويشدد "الغرباوي" على أهمية نقد البنية العقلية، وإعادة النظر في النظام المعرفي والأزمة الثقافية، الأمر الذي يسبب إيجاد حل لـ"مشكلات العالم الإسلامي المعقدة"، حسب قوله، ويُمكِّن من إنجاح مشروع النهضة الحضارية.

 

العنف المذهبي

يفسر المؤلف انتشار ظاهرة التكفير والعنف المذهبي في العالم الإسلامي، التي حدثت في التراث وما زالت ممتدة في العصر الحديث، بالتفسيرات التراثية الخاطئة التي يحمل أصحابها أهدافاً معينة، ما أدى إلى انتشار التكفير والعنف ضد الآخر المختلف مذهبياً أو فكرياً، حسب قوله.

ويذهب "الغرباوي" إلى أن غياب النقد الذاتي المستمر للتراث الإسلامي، في مراحله المختلفة حتى العصر الحالي، كان عاملاً على انتشار الفكر التكفيري وفتاوى القتل، حتى ضد المسلمين أنفسهم، عكس النهج القرآني الذي يشدد على حرمة النفس.

 أنواع التفكير

يقسم "الغرباوي" التفكير إلى نوعين:

1- تفكير سلبي يقيني: يرى المؤلف أن التفكير السلبي اليقيني، غير المؤسس على العقلانية والمبني على الخرافات والأساطير، الذي تمكَّن الغرب من التخلص منه، واعتمد على العقل والتجربة حتى حقق نضهته الحضارية، هو مُسبّب رئيسي للتخلف الحضاري في العالم الإسلامي.

2- تفكير إيجابي يقيني: يعتمد التفكير الإيجابي اليقيني على إعمال العقل والأخذ بالتجربة، وفتح باب الاجتهاد واستخدام العلوم الحديثة وأدواتها، وهو تفكير ضروري لتحقيق النهضة العربية.

 الدين والتجديد

يفرق "الغرباوي" بين "الدين" من جانب، و"الديني" من جانب آخر، ويرى أن التراث غير النص الديني، كما يذهب إلى أن الدين والنص المقدس ليسا سبباً في التأخر الحضاري؛ بل التناول البشري للدين والتفسيرات التراثية التقليدية هما سبب التراجع الحضاري، ويدعو إلى مغادرة التفسيرات التراثية، ويطالب بإعادة قراة النص الديني قراءة نقدية ذاتية عقلانية، وفق التطورات الاجتماعية والتاريخية، مع الاستعانة بالعلوم الحديثة، ما يمثل سبيلاً إلى تحقيق النهضة.

 وختاماً، فإن كتاب "إخفاقات الوعي الديني" للمفكر العراقي ماجد الغرباوي، هو محاولة متوازنة من المؤلف لتحديد الأسباب التي أدت إلى حالة التخلف السائدة في العالم الإسلامي، وعجزه عن اللحاق بركب الحضارة العالمية، رصد خلاله أهم المعوقات أمام حداثة دينية؛ منها: الوعي الديني الزائف الذي مزج بين الدين والفهم التراثي البشري له. 

ووضع المؤلف في كتابه طريقاً نحو الحداثة، يتمثل في نبذ جميع الأسباب التي أدت إلى حالة التخلف التي وقع فيها العالم الإسلامي، وما زال عاجزاً عن تخطيها؛ وتتمثل ملامح هذا الطريق في نبذ الموروث التراثي الذي حاز صفة القداسة، والعودة إلى النص الديني لإعادة قراءته قراءة عصرية، والاستعانة بالعلوم الحديثة ومناهجها، وتفعيل النقد العقلاني الذاتي الذي كان مُفتقَداً في التراث الإسلامي.

 

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الفرق الشيعية: حدود الاختلافات العقائدية ومرويات الاستناد

09-10-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

حسام الألوسي: المنهج التكاملي والقراءة المعرفية للتراث

15-09-2024

اتجاهات ثقافية

التبرع بالأعضاء: التباينات الفقهية الإسلامية بين الإباحة والتحريم

01-09-2024

لقاءات خاصة

عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)

02-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة