المرأة أحد مفاتيح تحقيق التنمية المستدامة (حوار – الجزء الأول)
تحاول الدكتورة أماني جرار، أستاذ الفلسفة بجامعة فيلادلفيا، تحليل عدد من القضايا التربوية المهمة، على رأسها كيف يمكن طرح منظومة فكرية تربوية شاملة، تضمن إرساء قواعد وأُصول التربية الوطنية؛ وأيضاً تناقش مسألة الأدوات التي تساعد في قياس مستوى الوعي بجملة القيم الإنسانية، وتقول إن البداية من إقرار المبدأ بأهميتها، وتوجيهها من خلال المنظومة التربوية.. وتتطرق كذلك إلى الحديث عن النسوية ورؤيتها لها وأهميتها، مشيرة إلى أنها تضع في اعتبارها ضرورة السعي لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل.
وإلى نص الحوار:
٭ كيف يمكن طرح منظومة فكرية تربوية، تضمن إرساء قواعد وأُصول التربية الوطنية؟
امتازت المرحلة المعاصرة بتغيرات جذرية، وأحدثت تغيرات شاملة في المقاييس الإنسانية والقيم الاجتماعية والاقتصادية، وظهر إلى حد ما إهمال للقيم المدنية، فأصبحت الثقافة بعمومها والبنية الاجتماعية تتعرض لكثير من التحديات والصعوبات نتيجة العولمة ومتطلبات الانفتاح على الآخر، الأمر الذي يستدعي مزيداً من العمل على الجانب التربوي الأخلاقي؛ فالتربية عملية مستمرة تشمل الجوانب العقلية والنفسية والعاطفية، وأيضاً الروحية للأفراد، وذلك من أجل الوصول إلى روح السلام، والسلام الداخلي، بما ينعكس على المجتمع إيجاباً.
وبما أن ضمان التعليم الجيد والشامل للجميع يشكل إحدى الأولويات الكبرى لخطط التنمية المستدامة لعام 2030م، التي أقرتها الأمم المتحدة، فإنه لا بد من تعزيز الحوار الفكري البنّاء، والتلاقي والتكامل الثقافي، وبناء الحوار المبدع، والاهتمام بالجانب الاجتماعي والتنموي والسلوكي والنماء العاطفي والروحي للأفراد، للوصول إلى التكامل النفسي وروح التضامن والتكافل بين المواطنين عالمياً ومحلياً، من خلال تربية وطنية فاعلة.
وبالتالي، فإنه لقياس وتقييم منظومة القيم الإنسانية أدوات عدة، تساعد مستخدميها في قياس مستوى الوعي بجملة القيم الإنسانية، فقد تظهر أهمية توافر مثل هذه الأدوات والمؤشرات في المؤسسات التربوية منها.
٭ ما القيم الإنسانية وفوائدها على ما يمكن تسميته بالانسجام الأخلاقي العالمي؟
القيم الإنسانيّة هي الفضائل التي تُوجِّه الإنسان إلى مُراعاة العنصر البشري، عندما يتفاعل مع الآخرين، وهي أهداف الإنسان المرغوبة التي تكون فعّالة من خلال مواقفه، ومُرتبة حسب أهميتها له، وتوجّه الإنسان نحو اختياراته، وتُقيّم سلوكه؛ كما أنّ هذه القيم التي يمتلكها الفرد لا تكون فطريّة، بل تكون نتيجة التنشئة الاجتماعيّة للفرد منذ وقت ولادته، وتستمر معه طوال حياته.
وتشتمل هذه القيم الإنسانيّة على الاحترام، والاستماع للآخر، والتعاطف، والمودة، والتقدير، ومحبة الآخرين؛ فمن خلال هذه القيم يُصبح المرء قادراً على التّحلّي بأخلاق إنسانية عامة، مثل العدالة والنزاهة، ورفض العنف والتسامح، كما تُشكّل القيم وسيلة لإدارة العلاقات الإنسانية وأداة للسلام، وتُحفّز الفرد على التفكير، وحرية التعبير، والتصرّف بطرق مهنية، فهي بمثابة معايير له، تضع قيوداً على سلوكه، ويشار إلى أنّ معظم القيم تتّصف بالمحبة، والفرح، والسلام، واللطف، والخير، والرجاء، والإيمان، والتواضع، وضبط النفس، والتسامح.
ومن المعروف أن القيم الإنسانية تعمل عادة على التقريب بين الأمم والشعوب، عن طريق ترسيخ الاحترام المتبادل، والتفاهم، وقبول الآخر، ونبذ الصراعات القائمة على أساس التمييز بسبب اللون أو الجنس أو العرق أو المعتقد الديني؛ إذ تعمل على الحد من الاختلافات والحث على رؤية أوجه التشابه والتقارب والعيش المشترك، لتعميق الاتصال بين الشعوب والأمم. كما أن للقيم الإنسانية أهمية كبيرة في بناء وصقل شخصية الفرد الناضجة عبر التربية؛ فتمثُّل القيم الإنسانية يجعل الفرد يشعر بالسلام الداخلي والطمأنينة والاستقرار والتوازن في الحياة الاجتماعية، كما تساعده في كسب ثقة الناس واحترامهم ومحبتهم، والقدرة على التأقلم مع الظروف برضا وقناعة، وتشكيل نمط عام للمجتمع وقانون يراقب تحركاته.
وبالتالي، تفعيل القيم الإنسانية في مجتمعاتنا يجب أن يمر في أطوار حتى نجني ثمارها تربوياً ونعيد إليها فاعليتها، بدءاً من إقرار أهميتها وتوجيهها عبر المنظومة التربوية، واعتبارها فلسفة مقصودة بذاتها؛ وبالتالي، قياس مردودها النفعي المباشر أو غير المباشر على النفس البشرية الملتزمة إيَّاها، والمجتمع الذي يراعيها، وصولاً إلى تقنينها في شكل نظام عام يأخذ صيغة الإلزام القانوني، وانتهاءً بتقرير المؤيدات الجزائية التي تعاقب كل من يخالف هذا النظام ردعاً له وحمايةً للقيم من الانهيار.
٭ إلى أي مدى أسهم وجود الفلسفة في تطوير أسس التربية؟
تعاني المجتمعات الإنسانية، سواء التقليدية أو الحديثة، أصنافاً عديدة من التأزم التربوي الذي يصيب حقول التنشئة في الأسرة والمدرسة، وكذلك في التعليم الجامعي. ولعل أصل هذا التأزم ناتج عن إشكالية الحرية، فيجب إعادة النظر في المفاهيم التربوية الأساسية، حتى نتبيَّن ما يفيد وما يجب أن يكون على المستوى الإنساني والأخلاقي. وقد أصر كانط، في بحثه الذي تناول "مسألة التربية"، على القول "إن الإنسان لا يصير إنساناً إلا بالتربية".
وكان الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952م)، مقتنعاً بأن التربية ليست تمهيداً إعدادياً يهيئ الطفل للاضطلاع بمسؤولية الحياة، بل سبيل عملي يتيح له أن يختبر الحرية اختباراً وجودياً يلائم مستوى وعيه، ويُلقَّنه نهجاً حياتياً يومياً. ومن الواضح أن هذا التصور يتجاوز الخلاف الفلسفي الحاد الذي نشأ بين الأديب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، والفيلسوف النقدي الألماني كانط؛ فقد كان روسو يناصر مبدأ الحرية الطبيعية، ويحث الأهل على صون حرية أطفالهم، ذلك بأن الطفل يكتسب وعياً عظيماً حين ينمو بواسطة قدراته الذاتية، فيتعلم أن يكتشف شخصيته، ويتعرَّف على قدراته، ويستطلع مواضع اهتماماته وانجذاباته. وتسهيلاً للمسار التربوي الذاتي هذا، كان لا بد أن تتحول الحرية إلى وسيلة تربوية، يستخدمها الأفراد من أجل بناء ذاتيتهم الحرة.. أما كانط، فكان يفرض مبدأ الانضباط، ويناصر قيمة الجهد التهذيبي الذي يبذله كل فرد من أجل تكوين شخصيته وصقلها والارتقاء بها.
لقد عملت الدول العربية، في معظمها، على التخلص من تدريس الفلسفة في مناهجها باعتبارها -وفق اعتقاد قادة المؤسسة التربوية فيها آنذاك- أنها تشكل فكراً ضد الدين، وهي العلة التي -على العكس- تنبه إليها الغرب وتغلب عليها، بحيث جعل الفلسفة أم العلوم في الكليات والجامعات الراقية، ولا بد أن يدرس الطالب مبادئ علوم الفلسفة وتاريخها وأبرز مفكريها ومدارسها، ليوسع آفاقه ونظرته للحياة، ويفهم تطبيقات المنطق الرياضي في اتخاذ القرار والمنهجية العلمية للتفكير والإقناع والحوار والنقد.
كما تنبه الغرب إلى الاهتمام بكيفية النظر إلى الكون وباقي المخلوقات فيه أيضاً، إلى جانب أخيه الإنسان. ولا تُعد الفلسفة علماً يهتم بمجال معين، بل هي التفكير في التفكير، وتدبر المرء العالم المادي والحسي وما وراء العالم المرئي والمحسوس، في محاولات دائمة للوصول إلى الحكمة والكلمة، وماهية المعرفة بالنفس والبيئة الخارجية المحيطة بالإنسان، وما يقف خلفها من قوى محركة.
من هنا، تظهر أهمية تعليم الفلسفة والمنطق والاهتمام بالتحليل المفهومي، بدلاً من مجرد الاهتمام بفهم الحياة والتركيز على العلوم التطبيقية؛ إذ يهتم الباحثون بمعرفة ما الطريقة المثلى لعيش الحياة، وهو ما تهتم به أيضاً فلسفة العلم في عصر النهضة، وكذلك الفلسفات الوجودية والإنسانية ومذاهب الحداثة وما بعد الحداثة.
٭ كيف ترين مفهوم النسوية؟ وإلى أين يمكن أن تصل الحركة النسوية؟
اصطلاح "نسوية" واجه هجوماً شديداً، سواء في الغرب أو الشرق، مما هدد بمحوه التام وتفريغه من معناه، سيما بعدما ارتبط ببعض التيارات النسوية الراديكالية المتطرفة، فلا يمكن التأسيس لحركة نسوية عربية فاعلة من غير تحرير المفهوم الذي يُعبر أساساً عن الهوية. فقد كتبت ماري وولستونكرافت (1759-1797م) في كتابها "دفاعاً عن حقوق المرأة"، الصادر عام 1792م، عبارتها الشهيرة عن النسوية "أتوق بشدة إلى أن أرى التمييز على أساس الجنس قد تلاشى تماماً، عدا ما يتعلق بالحب"؛ ومن المتفق عليه أن وولستونكرافت لم تستخدم اصطلاح نسوي (Feminism)، الذي استخدمته الموجة النسوية الأولى، خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، للإشارة إلى حقوق المرأة على أساس المساواة بين الجنسين.
فقد لاقى تبني مفهوم النسوية في بدايته، وبتأثير الزخْم الثوري، صدىً واسعاً ومبشِّراً بين الأوساط الشبابية، مما شجّع عديداً من فتيات ونساء بارزات بإعلان "نسويتهن" وافتخارهن بها، بوصفها حركة ثورية ضد قهر المرأة وتنميطها وإخضاعها، باسم الدين والعادات والتقاليد (!).
جدير بالذكر أن النسوية بتشابكاتها المفاهيمية والنظرية، لم تُدرس إلى الآن بشكل واضح ضمن المناهج التعليمية التأسيسية، أو أقسام العلوم الإنسانية بالتعليم الجامعي في الدول العربية كما يجب، ولم تُناقَش بجدّية على منصات الإعلام الرسمي أو الخاص كما يجب بالمعنى الفلسفي.. إذاً، حين خرج الاصطلاح من نُخبويته، لم يوازِ ذلك طرح علمي توعوي من شأنه تأسيس وتثبيت ماهية الاصطلاح ودلالاته، التي تحدد حاجة مجتمعاتنا العربية منه.
٭ ما أهمية وجود منظومة فكرية نسوية تنويرية؟
انتقلت النسوية، بفعل عوامل عديدة للعالم العربي، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكن لم تأخذ زخْمها العميق كما هي حالياً، إلا بداية من عقد الثمانينيات من القرن العشرين؛ نظراً لأن تركيز الشعوب العربية في النصف الأول من القرن العشرين كان منصباً على حركات التحرر من المحتل.
وعلى الرغم من أن النسوية تضع في اعتبارها ضرورة السعي لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، فإنه وضمن الحركة النسوية ذاتها، كثير من التيارات المتباينة التي يصل بها الحد في كثير من الأحيان إلى التناقض والصدام، فضلاً عن الصدام ما بين النسوية ككل، وقيم المجتمعات المختلفة في العالم، ومنها قيم المجتمع العربي واعتقاداته الدينية في كثير من الأحيان.
الحركة النسوية تسعى لتحقيق عدة أهداف، تقضي من خلالها على النظام الأبوي "البطريركي" في مختلف المجتمعات، وإنهاء حالة اللا مساواة التي يخلقها ذلك النظام ما بين الرجل والمرأة، وإنهاء حالة الإقصاء والتهميش التي تعيشها المرأة في مختلف المجتمعات.
وعلى الرغم من أهمية المطالب التي تنادي بها النسوية العالمية عموماً، والنسوية العربية خصوصاً، من حيث المطالبة بوقف عمليات التمييز والإقصاء المفروضة على المرأة، فإن النسوية برمتها قد وقعت في كثير من الأحداث التي جعلتها في صدام مباشر مع كثير من المجتمعات حول العالم.
وهذا الحال ينطبق أيضاً على العلاقة ما بين النسوية والمجتمع العربي، والأسباب التي تفسر رفض المجتمع العربي النسوية، أو بعض أشكال النسويات، أو بشكل أدق بعض أفكار النسوية، وهي بالمجمل أسباب عديدة؛ منها: مفهوم الانتقال من المساواة القانونية إلى المساواة الطبيعية؛ فالنسوية في موجتها الأولى، وفي تيارها الليبرالي، كانت تنادي بضرورة المساواة القانونية ما بين الرجل والمرأة، وهذه المطالب منصوص عليها في كل الدساتير العربية؛ إذ لا تمييز بين الرجل والمرأة على أساس الجنس، وكما أن الرجل بمنظور الدساتير العربية مواطن عربي، فإن المرأة مثله تماماً مواطنة عربية، لديها مثل ما للرجل من حقوق وعليها مثل ما عليه من واجبات تجاه المجتمع والدولة؛ لكن الإشكال الذي وقعت فيه النسوية، لا سيما في موجتها الثالثة وفي تيارها الراديكالي، أن بدأت تطالب النسوية بشكل عام، ومنها النسوية العربية، بضرورة المساواة الطبيعية ما بين الرجل والمرأة؛ أو بلغة أدق، أن أنكرت النسوية وجود أي اختلافات طبيعية وبيولوجية ما بين الرجل والمرأة.
وعليه، فإن وجود منظومة فكرية نسوية تنويرية، تحديداً في مجتمعاتنا العربية، يعتبر ضرورة لتوضيح مفهوم النسوية، والغرض منها، وإيجاد أرضية مشتركة للتناغم بين مكونات المجتمع.
٭ كيف يجب التعامل مع قضايا المرأة بشكل يمكنها أكثر لخدمة الأهداف التنموية؟
المرأة هي واحد من أهم مفاتيح تحقيق التنمية المستدامة، وقضايا المرأة متشابكة في جميع المجالات، ولا بد من معالجتها بنهج متكامل إذا أردنا تحقيق تنمية مستدامة حقيقية على المدى الطويل، فتمكين المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين يشكل أساساً من الأسس الضرورية اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة، وإحلال السلام والأمن المجتمعي والرخاء في العالم، وفي الوطن العربي. كما أن توفير التكافؤ أمام النساء والفتيات في الحصول على التعليم، والرعاية الصحية، والعمل اللائق، والتمثيل السياسي والاقتصادي، واتخاذ القرارات، سيكون بمثابة الدافع لتحقيق التنمية الاقتصادية في العالم، وفي المنطقة العربية بشكل خاص.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
لقاءات خاصة
عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.