العقل النقدي ضرورة لمواجهة التدفق المعلوماتي (حوار – الجزء الثاني)
يستكمل مركز "حوار الثقافات" حواره مع الأكاديمية الأردنية الدكتورة أماني جرار، أستاذ الفلسفة بجامعة فيلادلفيا، وفي الجزء الثاني، من حوارها، تتحدث عن كيفية بناء إنسان سوي بعيد عن التطرف، موضحة أن التطرف مفهوم قديم ولا علاقة له بدين محدد أو أيديولوجيا معينة، مضيفة أنه يجب البحث بصورة تحليلية ناقدة في أسباب فشل التعليم في إنتاج الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، وغيرها من المسائل المهمة.
وإلى نص الحوار:
٭ كيف يمكن بناء وتربية إنسان سوي بعيداً عن التطرف؟
لم تكن قضايا التطرف باسم الدين ذات حضور عالمي، ومحل نقاش في التداول السياسي والإعلامي والبحثي والأمني والاجتماعي، محلياً وإقليمياً وعالمياً، مثلما هي اليوم؛ وعلى اعتبار أن التطرف مفهوم قديم، منذ تعرض الأديان للتشوه والتحريف، فإنه لا علاقة له بدين محدد أو أيديولوجيا معينة.
فالأصل أن الدين يشكِّل طاقة روحية وأخلاقية تهتم بإصلاح المجتمعات الإنسانية وتحقيق الأمن والسلام بين الناس، واحترام حقوقهم وصيانة كرامتهم، وليس خلق أجواء الفتنة والتقسيم والحروب والصراعات. والتطرف الديني لا يصدر بين ليلة وضحاها، وإنما هو نتيجة إيمان المتطرف بأفكار متطرفة، أي شاذة عن التداول الديني والسياسي والثقافي؛ وبالتالي، فالتفاعل مع هذه التطرفات المادية ومواجهتها على أرض الواقع، يتطلب الانطلاق من الأصل، أي التفاعل مع التطرف السائد في الجهاز المفاهيمي للإنسان المتطرف، أو الذي تعرض لما يشبه عملية غسْل دماغ، جعلته ينتقل من الوسطية والاعتدال إلى التطرف العنيف.
إننا أمام ظاهرة معقدة ومركبة، وقد تزداد تعقيداً أيضاً على الأمد البعيد، إذا لم يجرِ التصدي لمُسبباتها الداخلية والخارجية. وأمام هذه المعطيات، كان لزاماً على الدول والمؤسسات المنخرطة في محاربة الإرهاب ودواعيه، وضع معالم المواجهة الحاسمة ضد الخطاب العنيف، من خلال البحث عن أجوبة نظرية وعملية عن السؤال التالي: هل توجد أرضية نظرية أو مؤسساتية، يمكن الانطلاق منها في سياق تأطير متفق عليه حول مواجهة خطاب التطرف والكراهية؟ هنا، يأتي الدور الهام للمنظومات التربوية لرد الحياة والأمل إلى صفوف تلاميذ مدارسنا وطلاب جامعاتنا، وتحصينهم ضد ثقافة الموت والكراهية، واستبدال بها ثقافة المحبة والحياة.
٭ ما فلسفة التعليم التي يجب أن تكون موجودة في مناهجنا العربية، أو المواضيع الأكثر أهمية التي يمكنها الارتقاء بالعقول؟
يجب أن نبحث بصورة تحليلية ناقدة، في أسباب فشل التعليم في إنتاج الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، كما يجب البحث في كيفية جعل المعرفة طريقاً للرُّقي الإنساني بكل أبعاده، فالتعليم ليس شيئاً متجانساً في جميع المجتمعات، أو حتى في المجتمع الواحد؛ بل قد لا يكون للمصطلح نفس المعاني والدلالات المتضمنة فيه عبر الثقافات والمجتمعات والدول.. لذلك، يتعين علينا أن نرصد تلك المسؤولية بصورة ميدانية، وفي السياقات الوطنية والقومية والثقافية والجغرافية، وأن نجري بحوثاً تفصيلية عن تلك الارتباطات بين التعليم والرُّقي الأخلاقي والمعرفي.
وبالتالي، فإن التركيز على التعليم بالمعنى الضيق على حساب التربية يوجه المجتمعات نحو التقدم التقني على حساب التربية الأخلاقية، وكذلك لا بد من البحث معمقاً في إشكالية التمركز حول الدولة والهوية (تعليم الدولة القومية)، من حيث ارتباط التعليم الحديث نفسه ارتباطاً قوياً بالدولة والهوية العرقية والثقافية على حساب الهوية الإنسانية.
وأعتقد أن واجبنا -بوصفنا خبراء ومفكرين- أن نسترد الوظيفة الأخلاقية والتربوية للتعليم على المستويات كافة. وإذا كنا نفكر في التعليم، باعتباره أداة لبناء حضارة إنسانية جديدة في سياقات تعددية ثقافياً واجتماعياً ودينياً، فإن علينا التركيز على أخلاقيات الحياة المدنية المأمولة، وهو ما يعني التركيز على التربية المدنية والتربية الإنسانية وتربية المواطن "العالمي".. وكذلك، استرداد الصلة العضوية بين التعليم والحياة الاجتماعية، من خلال تأكيد التكامل المعرفي.
وقد يكون هذا المبدأ هو أكثر الطرق فعالية في الدفع نحو التطور الأخلاقي، وضمان غرس المسؤولية الاجتماعية والمدنية للتعليم؛ وبالتالي، الاهتمام ببناء الإنسان أخلاقياً وروحياً أيضاً من أجل تحقيق ازدهار ورفاه الإنسانية.
٭ موضوع التنمية المستدامة والسلام العالمي أكثر الموضوعات التي أقلقت الفلاسفة والمفكرين.. فهل يمكن أن يتحققا؟ وكيف ذلك؟
لقد كانت التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، قبل عام 1980م، يتم التعامل معها باعتبارها ثلاث قضايا منفصلة، تستبعد التداخل المنهجي، والأبعاد المنطقية والفلسفية الرابطة بينها. لكن بعد هذا التاريخ، أصبح من الواضح أن هذه القضايا الثلاث متلازمة ومتساندة، لا تنفصل، ويجب أن تُدار معاً، فبدأ مصطلح التنمية المستدامة يُستخدم على نحو متزايد، وهو أحد أكثر المفاهيم، التي تجري مناقشتها بشكل متكرِّر ضمن الأدبيات الأكاديمية، عن البيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها تحدياً فلسفياً.
والفلسفة تعتبر التنمية مجالاً خصباً للبحث، الذي يُعنى بالنظر في تقاطع التطوّر مع علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، وكل العلوم الإنسانية والطبيعية، مع مناقشات مفصلة لقضاياها المركزية، من أجل بناء إطار عام لفهم وتحليل نظريات التنمية الفردية والجماعية في مختلف المجالات، التي تتراوح بين التنمية المعرفية والأخلاقية، إلى التطوّرات في الفن والتكنولوجيا؛ وذلك لأنها تُولى اهتماماً خاصاً للعلاقات البينية بين التطوّر المفاهيمي والتعليم، الأمر الذي تبدو معه فلسفة التنمية الشاملة بتمامها وكمالاتها مقدمات لازمة للإجراء على المستوى التطبيقي للتنمية المستدامة.
ومن ثم، فهي تشكل أبعاداً تتجاوز القياس المعتاد للإنجاز الاقتصادي، وتُوسع نطاقه ليشمل التأثير الذي أحدثه تاريخ الفكر، والنظريات السياسية، وعلم الاجتماع، والفلسفة الاجتماعية، والاقتصاد السياسي، في التنمية بشكل عام، ولا سيما في الوطن العربي بشكل خاص.
٭ إلامَ يحتاج المثقفون في هذه المرحلة؟ إلى تغيير أدواتهم، أم استعادتها من جديد، أم إعادة بناء فكر نقدي؟
في وقتنا الراهن، يواجه الإنسان المعاصر تدفقاً معلوماتياً يفوق قدراته بكثير، وحسب الإحصاءات فإن أكثر من خمسة مليارات عملية بحث تُجرى يومياً، ناهيك بما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار وتفاعل، وما تطرحه الفضائيات والصحف، وهذا يتطلب امتلاك الشخص قدرة فكرية ونقدية تفحصية على فرز وتدقيق هذا الكم الهائل من البيانات والمعلومات، من خلال امتلاك عقل نقدي له معاييره في التفكير، لتبيان صحة الأفكار والأحداث، وتحديد السلوك الواجب اتخاذه حيالها.
فالتفكير النقدي ضرورة في حياة الإنسان المفكر؛ ودون مهاراته يمكن أن يرتبك العقل البشري بسهولة. وبالتالي، على الخبراء والمثقفين والمفكرين، والمنظومات التربوية، البحث في استحداث آليات تطبيقية وفكرية تساعد في تمحيص المعلومات والأحداث والأخبار والقصص والأفكار، وتقييم الأشخاص، ونقد الذات، وفهم العلاقات بين الأشياء، مما يسهم في صحة اتخاذ القرار، واعتماد الفرضيات الملائمة، وتوفير الجهد، والقدرة على قراءة ما بين السطور، وسماع المسكوت عنه في الكلام، والموازنة بين الفرضيات، والنفاذ السريع إلى جوهر الأشياء، والإمساك بالحجج الصحيحة والقوية، وفرز المعلومات فرزاً منطقياً واعياً، للوصول إلى أفضل السبل وأقصرها وأكثرها نفعاً، ومن ثم اكتساب القدرة على حل المشكلات.
لقاءات خاصة
عامر الحافي: مشكلتنا ليست مع الحداثة أو التراث بل مع بعض الحداثيين والتراثيين (الجزء الثاني)
لقاءات خاصة
عامر الحافي: بعض المذاهب الإسلامية لم تشتهر رغم أنها أصوب من الرائج (الجزء الأول)
© جميع الحقوق محفوظة لمركز حوار الثقافات 2024.