الطَّلاقُ في الشَّرْعِ الإسلاميِّ لَيْسَ مُجَرَّدَ إِجْراءٍ لَفْظِيٍّ لِفَسْخِ عَقْدِ الزَّواجِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ بَلْ هُوَ عَمَلِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ عِدَّةَ مَراحِلَ تَهْدِفُ إِلى إِعْطاءِ فُرْصَةٍ لِلإِصْلاحِ وَإِعادَةِ النَّظَرِ قَبْلَ اتِّخاذِ القَرارِ النِّهائيِّ. الطَّلاقُ يَعْني تَوَقُّفَ العَلاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ الاجْتِماعِيَّةِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَجَفافَ العاطِفَةِ بَيْنَهُما، وانْفِصالَهُما عَنْ بَعْضِهِما البَعْضِ بِشَكْلٍ كُلِّيٍّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالحَياةِ الزَّوْجِيَّةِ الأُسْرِيَّةِ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِمْرارِ العَلاقَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِي أُمُورٍ أُخْرى خَارِجَ الحَياةِ الزَّوْجِيَّةِ، مِثْلَ العِنايَةِ بِالأَوْلادِ أَوِ التَّعاوُنِ فِي الأَعْمالِ الاقْتِصادِيَّةِ أَوِ العِلْمِيَّةِ.
الطَّلاقُ السّائِدُ وَالشَّرْعِيُّ
السُّؤالُ: هَلِ الطَّلاقُ السّائِدُ بَيْنَ النّاسِ، وَالمُتَمَثِّلُ فِي التَّلَفُّظِ بِالطَّلاقِ مَرَّةً واحِدَةً أَوْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَةٍ، هُوَ الطَّلاقُ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ فِي القُرْآنِ؟ لِفَهْمِ هَذا يَجِبُ أَنْ نَعُودَ إِلى القُرْآنِ نَفْسِهِ.
الفَرْقُ بَيْنَ عَقْدِ الزَّواجِ وَعَقْدِ البَيْعِ
عَقْدُ الزَّواجِ لَيْسَ مِثْلَ عَقْدِ البَيْعِ وَالشِّراءِ؛ فَعَقْدُ البَيْعِ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ فَقَطْ ويتعلق بالأشياء، وَيُمْكِنُ أَنْ يكون سراً، بَيْنَما عَقْدُ الزَّواجِ هُوَ عَقْدٌ اجْتِماعِيٌّ إنساني، يَتَطَلَّبُ حُضُورَ المُجْتَمَعِ مِنْ خِلالِ مُؤَسَّساتِهِ، وَلَوْ بِالحَدِّ الأَدْنى وَهُوَ مُؤَسَّسَةُ الأُسْرَةِ أَوْ ما يَنُوبُ عَنْها.
أَرْكانُ عَقْدِ الزَّواجِ
1. سِنُّ الرُّشْدِ: يَجِبُ أَنْ يَصِلَ طَرَفَا العَقْدِ إِلى سِنِّ الرُّشْدِ وَهُوَ العِشْرِينَ مِنَ العُمْرِ كحد أدنى، مَعَ تَحَقُّقِ الوَعْيِ وَالعَقْلِ.
2. الرِّضا: رِضا طَرَفَي العَقْدِ بِنَاء العَلاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ خِلالِ الإِيجابِ وَالقَبُولِ.
3. أن لا يَتعلق عَقد النكاح بالمَحارِم أو ما حرَّمَه الله في كتابه.
واجباتُ صِحَّةِ عَقْدِ الزَّواجِ
1. المِيثاق: أَخْذُ المِيثاقِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ لِحِفْظِ العَلاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالاعْتِناءِ بِها، وَعَدَمِ خِيانَةِ أَيِّ طَرَفٍ لِلآخَرِ. {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} (النِّساء: 21).
2. التَّوْثِيقُ الاجْتِماعِيُّ: تَوْثِيقُ العَقْدِ بِالوَسيلَةِ المُتاحَةِ كَحَدٍّ أَدْنى بِوُجُودِ شاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
3. المُبارَكَةُ الأُسَرِيَّةُ: المُبارَكَةُ الأُسَرِيَّةُ لِكِلا الطَّرَفَيْنِ فِي زَواجِهِما.
4. الإِشْهار: إِعْلانُ الزَّواجِ مِنْ خِلالِ إِقامَةِ حَفْلٍ لِيَعْلَمَ الأَصْحابُ وَالأَقارِبُ وَالأَصْدِقاءُ بِالحَدَثِ، وَيَكُونُوا دائِرَةَ تَوْثِيقٍ اجْتِماعِيَّةٍ أُخْرى لِلْعَقْدِ.
عَلاقَةٌ اجْتِماعِيَّةٌ أُنْشِئَتْ بِهَذا الشَّكْلِ، لا يَصح أَنْ تُنْقَضَ بِلَفْظِ كَلِمَةٍ واحِدَةٍ أَوْ ثَلاثِ كَلِماتٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ فِي غُرْفَةِ نَوْمِهِما.
الفَرْقُ بَيْنَ “مَرَّتَيْنِ” وَ”اثْنَتَيْنِ”
النَّصُّ القُرْآنيُّ يَسْتَخْدِمُ كَلِمَةَ “مَرَّتَيْنِ” لِلإِشارَةِ إِلى الطَّلاقِ، كَما فِي قَوْلِهِ تَعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} (البَقَرَة: 229). كَلِمَةُ “مَرَّتَيْنِ” تَعْنِي حُدُوثَ الفِعْلِ مَرَّتَيْنِ مَعَ وُجُودِ فاصِلٍ زَمَنِيٍّ بَيْنَهُما، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ عَدَدٍ. بَيْنَما كَلِمَةُ “اثْنَتَيْنِ” تُشِيرُ إِلى العَدَدِ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ دُونَ إِشارَةٍ إِلى الزَّمَنِ أَوِ الفاصِلِ الزَّمَنِيِّ. فَمَثَلاً، يُمْكِنُ القَوْلُ: “جِئْتُ لِعِنْدِكَ مَرَّتَيْنِ وَطَرَقْتُ البَابَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اثْنَتَيْنِ”، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ هُناكَ حَدَثَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ زَمَنِيّاً، بَيْنَما العَدَدُ فِي كُلِّ حَدَثٍ هُوَ اثْنانِ.
مَراحِلُ الطَّلاقِ
الطَّلاقُ فِي الإِسْلامِ يَتَطَلَّبُ مُراعاةَ قَواعِد أُصُولِيَّةٍ، وَيَمُرُّ بِمَراحِلَ تَهْدِفُ إِلى التَّأْكِيدِ عَلَى جِدِّيَّةِ القَرارِ وَإِعْطاءِ الفُرْصَةِ لِلتَّراجُعِ وَالتَّفْكِيرِ:
1. الإِخْبارُ وَالاتِّفاقُ: يَبْدَأُ الزَّوْجُ بِإِخْبارِ زَوْجَتِهِ بِرَغْبَتِهِ فِي الطَّلاقِ بِحُضُورِ شاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَحَدُهُما مِنْ أَهْلِهِ وَالآخَرُ مِنْ أَهْلِها أَوْ ما يَنُوبُ عَنْهُما لِمُشارَكَتِهِما فِي القَرارِ وَمُحاوَلَةِ الإِصْلاحِ بَيْنَهُما.
2. العِدَّةُ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ فِي حالَةِ الطُّهْرِ عِنْدَ بَدْءِ العِدَّةِ، وَالطَّلاقُ لا يَقَعُ إِذا كانَتِ المَرْأَةُ فِي فَتْرَةِ المَحيضِ.
3. المَرْحَلَةُ الأُولى: بَعْدَ إِتْمامِ العِدَّةِ الأُولى (ثَلاثَةِ قُرُوءٍ)، يَجْتَمِعُ الزَّوْجانِ وَالشُّهُودُ مَرَّةً أُخْرى لِمُراجَعَةِ قَرارِ الطَّلاقِ. إِذا تَصالَحا، يُمْكِنُ إِلْغاءُ مَشْروعِ الطَّلاقِ. وَإِذا أَصَرّا عَلَى الطَّلاقِ، تَبْدَأُ العِدَّةُ الثَّانِيَة (ثَلاثَةِ قُرُوءٍ).
4. المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَعْدَ انْتِهاءِ العِدَّةِ الثَّانِيَةِ وهذا يَعني مُضي ستة أشْهر، يَجْتَمِعُ الأَطْرافُ مَرَّةً أُخْرى. إِذا تَصالَحا، يُمْكِنُ إِلْغاءُ الطَّلاقِ. وَإِذا اسْتَمَرَّ الإِصْرارُ عَلَى الطَّلاقِ، يَصير الطَّلاقُ بائِناً وَلا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إِلا بَعْدَ تَجْرِبَةِ زَواجٍ جَديدٍة لا حِيَل فيها ولا خِداع، ويَفشل الزواج أو يموت الزوج، فيَمكن حِينئذ إن أراد الطرفان أن يَرجعا لبَعْضِهما في حال ظنَّا أنَّهُما فَهِما الدَّرس ويستطيعان بدء حياة زوجية جديدة.
مَقْصدُ المُشَرِّعِ مِنَ الطَّلاقِ المَرْحَلِيِّ
الطَّلاقُ المَرْحَلِيُّ كَما شَرَعَهُ اللهُ يَهْدِفُ إِلى الإِصْلاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَإِعْطائهِما فُرْصَةً لِلتَّراجُعِ عَنْ قَرارِ الطَّلاقِ خِلالَ هَذِهِ المَراحِلِ، وَلا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إِخْراجُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَنْزِلِها، مِمَّا يُمْنَحُ الفُرْصَةَ لِلأَطْرافِ لِلتَّفْكِيرِ وَالصُّلْحِ.
هَذِهِ الإِجْراءاتُ تَهْدِفُ إِلى تَجَنُّبِ الطَّلاقِ المُتَسَرِّعِ وَإِعْطاءِ الزَّوْجَيْنِ فُرْصَةً لِإِعادَةِ النَّظَرِ فِي قَرارِهِما. يَقُولُ اللهُ تَعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْراً} (الطَّلاق: 1).
الخُلاصَة
الطَّلاقُ فِي الشَّرْعِ الإسلاميِّ عَمَلِيَّةٌ مَدْروسَةٌ وَمَشْروعٌ عَلَى مَراحِلَ، يَهْدِفُ إِلى حِمايَةِ حُقُوقِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِعْطاءِ الفُرْصَةِ لِلتَّراجُعِ عَنْ قَرارِ الطَّلاقِ فِي حالَةِ التَّسَرُّعِ أَوِ الضَّغْطِ النَّفْسِيِّ. هَذِهِ العَمَلِيَّةُ تَأْخُذُ فِي الاعْتِبارِ العَلاقَةَ الاجْتِماعِيَّةَ وَالاقْتِصادِيَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَعْمَلُ عَلَى حَلِّ النِّزاعاتِ بِشَكْلٍ يَضْمَنُ العَدالَةَ وَالاحْتِرامَ لِلطَّرَفَيْنِ.
أَيُّ طَلاقٍ يَتِمُّ بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ طَلاقٌ باطِلٌ وَلا قِيمَةَ لَهُ، وَيَأْثَمُ مَن يَفْعَلُهُ. وَيَصيرُ مُعْتَدِياً عَلَى حُدُودِ اللهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْراً} (الطَّلاق: 1).