تَعِيشُ المُجْتَمَعَاتُ المُعَاصِرَةُ أَزْمَةً حَقِيقِيَّةً فِي فَهْمِ وَتَطْبِيقِ مَفْهُومِ الحُرِّيَةِ الدِّينِيَّةِ. هَذَا الفَرَاغُ الثَّقَافِيُّ الدُّسْتُورِيُّ بَدَأَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ، حَيْثُ ارْتَجَلَ الحُلُولَ وَاسْتَمَرَّ هَذَا الِارْتِجَالُ حَتَّى تَحَوَّلَ إِلَى اسْتِبْدَادٍ وَاسْتِعْبَادٍ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَرِ، مِنَ الحُكْمِ المَلَكِيِّ إِلَى السُّلْطَانِيِّ وُصُولاً إِلَى الرِّئَاسِيِّ. تَعَدَّدَتِ الأَنْماطُ وَلَكِنَّ الاسْتِبْدَادَ بَقِيَ وَاحِداً.
لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا المَأْزِقِ العَوِيصِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّحَرُّكُ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ وَلَيْسَ عَلَى الوَرَقِ، وَذَلِكَ بِوَقْفِ النَّزِيفِ الاسْتِبْدَادِيِّ، مَا يُتِيحُ لِلْمُجْتَمَعِ وَمُثَقَّفِيهِ التَّحَرُّكَ بِحُرِّيَةٍ وَطَرْحِ مَشَارِيعَ نَهْضَوِيَّةٍ.
الحُرِّيَةُ الدِّينِيَّةُ فِي القُرْآنِ
الحُرِّيَةُ الدِّينِيَّةُ هِيَ حَقٌّ أَسَاسِيٌّ أَقَرَّهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ. الإِنْسَانُ خُلِقَ حُرّاً وامْتِلاكُهُ الإِرَادَةَ الوَاعِيَةَ يَجْعَلُهُ مَسْؤُولاً عَنْ أَعْمَالِهِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: “وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ” (الصَّافَّات: 24). الحُرِّيَةُ هُنَا تَعْنِي المَسْؤُولِيَّةَ، وَالمَسْؤُولِيَّةُ تَعْنِي الحُرِّيَةَ، وَهَذَا يَبْرُزُ فِي وَصْفِ اللهِ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لا يَمْلِكُونَ حُرِّيَةَ الإِرَادَةِ الثُنائية: “لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التَّحْرِيمِ: 6).
خَلَق اللهُ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْتَلِيَ الإِنْسَانَ بِأَفْعَالِهِ، وَالِابْتِلَاءُ لا يَكُونُ إِلَّا بِوُجُودِ الحُرِّيَةِ: “الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُم أَيُّكُم أَحْسَنُ عَمَلاً” (المُلْكِ: 2). اللهُ يُعْطِي الإِنْسَانَ الحُرِّيَةَ فِي اخْتِيَارِهِ الدِّينَ، فَقَالَ: “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ” (البَقَرَةِ: 256) وَأَيْضاً: “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكَهْفِ: 29).
مَنْعُ القَتْلِ بِسَبَبِ المُعْتَقَدَاتِ
لا يَمْنَحُ القرآنُ أَيَّ سُلْطَةٍ بَشَرِيَّةٍ حَقَّ مُحَاسَبَةِ الآخَرِينَ عَلَى مُعْتَقَدَاتِهِمْ أَوْ إِجْبَارِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ دِينٍ مُعَيَّنٍ. وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الوَصَايَا العَشْرِ {قُلْ تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام151، وَالحِسَابُ يَكُونُ عَلَى الأَعْمَالِ وَلَيْسَ عَلَى التَّصَوُّرَاتِ وَيُتْرَكُ لِيَوْمِ القِيَامَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ” (البَقَرَةِ: 217). المُحَاسَبَةُ المُجْتَمَعِيَّةُ تَكُونُ عَلَى الأَعْمَالِ الَّتِي تَضُرُّ المُجْتَمَعَ كَجَرِيمَةِ الخِيَانَةِ العُظْمَى وَلَيْسَ لِتَغْيِيرِ الدِّينِ.
الحَدِيثُ النَّبَوِيُّ حَوْلَ قَتْلِ المُرْتَدّ
الحَدِيثُ “مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ” (إِنْ صَحَّ سَنَدُهُ) جَاءَ فِي سِيَاقِ مُؤَامَرَةٍ سِيَاسِيَّةٍ حِينَ قَالَ بَعْضُ اليَهُودِ: “وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (آلِ عِمْرَانَ: 72) لِيُشَجِّعُوا النَّاسَ عَلَى تَرْكِ الإِسْلَامِ. الحَدِيثُ كَانَ عِلَاجاً سِيَاسِيّاً ظَرْفِيّاً رادعاً ومانعاً من حصول المؤامرة، وَلَيْسَ حُكْماً شَرْعِيّاً دَائِمَاً، وَبِالتَّالِي لا يَجِبُ أَنْ يُتَّخَذَ مَصْدَراً تَشْرِيعِيّاً يُنَاقِضُ النُّصُوصَ القُرْآنِيَّةَ وَالفِطْرَةَ الإِنْسَانِيَّةَ.
التَّحْلِيلُ وَالمُقَارَنَةُ
الاسْتِبْدَادُ الحَالِيُّ يَعُودُ إِلَى غِيَابِ ثَقَافَةِ الحُرِّيَةِ وَالكَرَامَةِ، وَالجَهْلِ بِحُقُوقِ الإِنْسَانِ. الحَلُّ يَتَطَلَّبُ إِشْبَاعَ النُّفُوسِ بِثَقَافَةِ الحُرِّيَةِ وَالكَرَامَةِ، حَتَّى تَصِيرَ حَاجَةً نَفْسِيَّةً كَحَاجَةِ الجِسْمِ لِلْهَوَاءِ. الحُرِّيَةُ مَفْهُومٌ اجْتِمَاعِيٌّ وَلَيْسَ فَرْدِيّاً، وَالرَّأْيُ يَنْبُعُ مِنْ إِنْسَانٍ حُرٍّ وَمَسْؤُولٍ، وَالجَهْلُ وَالغَوْغَائِيَّةُ لا قِيمَةَ لَهَا فِي المُجْتَمَعِ الوَاعِي.
الخَاتِمَةُ
تَأْكِيدُ الحُرِّيَةِ الدِّينِيَّةِ وَمَنْعُ القَتْلِ عَلَى أَسَاسِ الفِكْرِ وَالدِّينِ، وهذا يُعِيدُ الإِنْسَانَ إِلَى جَوْهَرِهِ الفِطْرِيِّ. القُرْآنُ يَحْمِي حُقُوقَ الإِنْسَانِ وَيَضْمَنُ لَهُ حُرِّيَةَ الاخْتِيَارِ، وَلا يُعْطِي سُلْطَةً لِأَحَدٍ بِأَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ عَلَى مُعْتَقَدَاتِهِمْ. الاحْتِرَامُ المُتَبَادَلُ وَالحُرِّيَةُ فِي التَّعْبِيرِ هُمَا الطَّرِيقُ لِبِنَاءِ مُجْتَمَعٍ قَائِمٍ عَلَى العَدَالَةِ وَالكَرَامَةِ، وَهُوَ مَا يَجِبُ أَنْ نَسْعَى لِتَحْقِيقِهِ فِي الوَاقِعِ بَعِيداً عَنِ الاسْتِبْدَادِ وَالجَهْلِ، وَيَنْبَغِي مَنْعُ أَصْحَابِ قَمْعِ الحُرِّيَاتِ وَالقَتْلِ وَالاعْتِقَالِ وَتَكْمِيمِ الأَفْوَاهِ مِنْ اعْتِلاءِ المَنَابِرِ، أَوِ اسْتِخْدَامِ أَيِّ وَسِيلَةِ تَوَاصُلٍ اجْتِمَاعِيٍّ، وَذَلِكَ لِحِمَايَةِ المُجْتَمَعِ وَأَمْنِهِ وَسَلامَتِهِ.